حين يرد ذكر لفظة “صوفي” تتبادر إلي الذهن صورة ذاك الرجل ذي اللحية الطويلة، والعمائم الكبيرة، والمسابح المتدلية، أو هؤلاء القوم الذين يحلقون حول مائدة طعام مستدرية، وينامون في خيام ضمن مولد أو عرس بالقرب من ضريح احد الأولياء كل هذه الأشياء عندما نذكرها لابد ان يأتي هذا التصور أمام أعيننا. ورغم ان هذه الأشياء فيها شيء من الحقيقة، إلا أنها لا تعبر تماما عن التصوف ورجاله الحقيقيين؛ فالتصوف في بداياته كان تطبيقا عمليا لكل ما يعنيه التصوف من معان وأخلاقيات لا يستطيع باحث ان يصل اليها إلا من خلال قراءة متأنية لما تركه هؤلاء الرجال الذين حملوا مشاعل الدعوة.
ويعد ذو النون المصري أول من غرس بذور التصوف في مصر في العام 859 ميلادية، وكانت أولي المدارس الصوفية تلك التي أسسها الشيخ عبد الرحيم القنائي في العام 1195، في صعيد مصر، وفي القرن الثالث عشر الميلادي بدأ ازدهار تصوف اصحاب الطرق؛ إذ وفد الي مصر الشيخ أبو الفتح الواسطى وبشر بالطريقة الرفاعية والجيلانية القادرية، وكان للشيخ الرفاعي والجيلاني دور مهم في نشر حركة التصوف في ربوع مصر.
وفيما يتعلق بالطريقة الرفاعية، فهي تنسب الي الشيخ احمد الرفاعي، وهو عراقي المولد، وهو شعار هذه الطريقة؛ ومن أبرز ما اتصف به ولعه بالحب، والذي لا يقتصر عنده علي حب الله والناس بل يتعداه الي الحيوانات والنباتات لدرجة إن احدي كراماته هي اخضاع الحيوانات وقد انتشرت هذه الطريقة في مصر علي يد الشيخ ابي الفتح الواسطى في مستهل القرن الثالث عشر الميلادي.
أما الطريقة الجيلانية، فهي طريقة عراقية الاصل، انتقلت الي مصر في القرن الثالث عشر الميلادي، وتنسب الي الشيخ عبد القادر الجيلاني، والتي جاءت الي مصر عبر الشيخ أبو الفتح الواسطى.
أما الطريقة الشاذلية، فتنسب إلي ابي الحسن الشاذلي، وهو أحد أبناء سبته بالمغرب، رحل إلي فاس وتتلمذ علي يد الشيخ ابي مدين التلمساني ثم ذهب الي تونس ومنها إلي مصر، ويقال انه ذهب الي مصر بناء علي رؤية رآها، وأسس طريقته في جنوب مصر بصحراء عيذاب – بالبحر الاحمر الآن – ومن ابرز حلفائه أبو العباس المرسي بالإسكندرية.
ومما يميز هذه الطريقة أن صاحبها كان يرتدي احسن الثياب واجملها، وله مقولة مشهورة: “اعرف الله، وكن كيف شئت”، وتقوم نظريته علي تفضيل الغني الشاكر علي الفقير الصابر ويعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط، أما الشكر فهو فضيلة في الدنيا والآخرة؛ ولهذه الطريقة فروع في المغرب العربي، ولم يترك الشاذلي اي مؤلفات، وقال: ان مؤلفاتي هم اصحابي وراية هذه الطريقة مختلفة الألوان.
فيما تعد الطريقة البدوية واحدة من أكبر الطرق وأشهرها في مصر، وتنسب هذه الطريقة إلي السيد احمد البدوي، والذي ولد بمدينة فاس، وهاجر والده الي مكة ومروا بمصر واستقروا بها ثلاث سنوات ورحلوا إلي مكة وبعد ان قضوا فترة طويلة في مكة عادوا إلي العراق وقرر السيد البدوي العودة إلي مصر في العام 1238، ليستقر به الأمر في طنطا، وأسس طريقته بها ودفن بها في العام 1276، ويتمثل تراث السيد البدوي في وصاياه، ويعتبر مولده من اكبر موالد مصر وقد تفرعت طريقته الي طرق عدة، إلا أن أبرزها يقوم علي لبس الخرقة والخرقة البدوية حمراء.
أما الطريقة الدسوقية البرهامية، فتنسب الي الشيخ ابراهيم الدسوقي، الذي ولد بمصر الا أن والده عراقي المولد والمنشأ، ضريحه بدسوق بمحافظة كفر الشيخ وللطريقة فروع كثيرة ورايتها خضراء.
وتجدر الإشارة خلال هذا السياق إلي أنه وفدت إلي مصر بعض الطرق من المغرب العربي في القرن الثالث عشر الميلادي، علي يد الشيخ أبي مدين التلمساني في العام 1197، وهو أحد كبار الصوفية في المغرب والأندلس، والذي أسس طريقة المدنية التي لا تزال قائمة إلي الآن في المغرب، وكان يحكم المغرب آنذاك الخليفة أبو يعقوب الذي اضطهد العلماء والفلاسفة؛ ومنهم: الفيلسوف ابن رشد والصوفي أبو مدين.
وكانت مصر في ذاك الحين مركزا من مراكز الخلافة العباسية بعد تدمير بغداد علي يد التتار في العام 1258، ومن الطبيعي أن يفكر متصوفة المغرب والعراق والشام في الهجرة إلي مصر التي وجدوها تربة خصبة لبث افكارهم الصوفية فظهرت الطريقة الشاذلية والبدوية والدسوقية ومن قبلهما الرفاعية والجيلانية.