لوحات فان غوغ تشعّ قلقاً

جرى مزاد علني واكبه صدى إعلامي وصخب نقدي لا يستهان به، لما حفل به من مفاجآت تشــكيلية، ترتبط ببيع لوحة للفنان فان غوغ (من مواليد هولندا عام ١٨٥٣ وعاش عشرين عاماً في فرنسا قبل وفاته مبكراً فيها عام ١٨٩٠)، لوحة صغيرة لا يتجاوز قياسها ٦٠x٤٠ سنتمتراً، عُقد المزاد في العاصمة الفرنسية في رواق المبيع التابع لغاليري رائدة هي «آركوريال»، افتتح الكوميسير بريزور المزاد أمام الجمهور النخبوي (للمقتنين وأصحاب المجموعات ممثلي المتاحف) بلوحة فان غوغ.

كان مالكها صاحب المجموعات الأوروبي أعارها للمتحف الخاص بهذا الفنان في أمستردام لمدة ثماني سنوات انتهت مع سنة استعادته لها عام ٢٠١٥، ثم توزع عرضها متاحف ما بين لاهاي ومونتريال قبل أن يقرر عرضها للبيع، وموافقته على تقدير المختصين في المزاد بأن قيمتها تتراوح ما بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين يورو، لكن المزاد رسا على صاحب مجموعات أميركي إثر سباق شرس لامتلاكها، رفع سعرها الى ما يتجاوز سبعة ملايين يورو.

ورغم أن آخر مزاد للوحات فان غوغ يرجع إلى عام ١٩٩٠ حــيث دقـــت مــطرقة المزاد على عشرة ملايين دولار لإحدى لوحاته، هو ما يعني ندرة عددها مع اختفائها من السوق والمجموعات والمتاحف. هي المفاجأة الأولى وليست الوحيدة.

المصادر التقنية تشير إلى أن اللوحة مصوّرة بالألوان الزيتية على ورق، وملصقة على قماش بطريقة «الماروفلاج» (التفريغ الهوائي)، ولست أكيداً، ولكن ما هو مثبت أن الفروق في تقويم الأسعار بين اللوحة القماشية والورقية أصبحت رهيفة بعد أن كانت حاسمة وتقاس بالسنتمتر المربع، وذلك للارتفاع المتدرج (ابتداء من بداية أزمة تسويق الفن المعاصر منذ ٢٠٠٨) للأعمال الورقية من رسم وباستيل وغواش وألوان مائية ولافي وأحبار وتقنيات مختلطة (من ملصقات وسواها) حتى قاربت أسعار اللوحات، نلاحظ أنه وللسبب نفسه ضاق هامش عدد المكرسين وهم من «القيمة الثابتة» أي المتوفين من الفنانين، هو ما يفسّر تنافس أفراد العائلة في أواخر عمر الفنان والسعي للوصاية على ميراثه الفني إذا كان مريضاً، تقع أعمال فان غوغ في المرتبة العليا من هذا السلّم الفلكي في أسعاره رغم أنه لم يبع لوحة واحدة في حياته، ولولا دعم أخيه ثيو المادي لما ضمن لقمة عيشه اليومية، تبدو رسائل فناننا إلى أخيه بالغة الأهمية جمعت في كتاب خاص بعد وفاته. يسر إليه بما دفعه إلى تصوير هذه اللوحة مع بداية احترافه التصوير وعمره لا يتجاوز التاسعة والعشرين، علماً بأنه بدأ متأخراً وقد تكون هذه من استهلالات سيرته الفنية، من الأكيد أنها أول مناظره الانطباعية. فرغم خلافه مع هذه المجموعة يحسب نقدياً عليها، بخاصة وأنه يعمل دوماً في الفراغ الطبيعي (الهواء الطلق) وبرفيف وتوليف الألوان الأولية مثلهم.

يصف لأخيه في أوائل رسائله عمق الإثارة لدرجة الصعقة الانفعالية التي حرضها في دواخله مشهد هؤلاء النسوة الفلاحات وهن يرتقن شباك الصيد، وقد اعتمرن جميعهن غطاء أبي للرأس، أثار اهتمامه أنهن متفرقات مبعثرات ضمن الحلزون الجغرافي للمنظر وهنا نقع على المفاجأة الثانية التي ترتفع إلى مستوى المعجزة، والمتمثلة في أن هذه اللوحة الاستهلالية المتواضعة تستشرف أسلوبياً شتى الدقائق التفصيلية الاحتدامية في مستقبله الفني النخبوي.

تحمل اللوحة جاذبيتة المتمايزة ذات القزحية التراجيدية، وبصماته التي جعلت من الفناء الانطباعي والهواء الطلق ملحمة أشواق وتحرقات «وجدانية -وجودية – وجدية» مجبولة بهيجان الألوان ولطخات الصباغة والسلوك المأزوم للفراشي، هي التي تحك السطح بسادية السكين والشظية الزجاجية، فالتكوين الحلزوني الديناميكي الجغرافي الذي تنتظم وفقه طوبوغرافية حشد النساء يتسرب إلى معالجة التفاصيل ضمن حومان دائري فلكي يذكّر بلوحته الشهيرة: «دائرة المساجين» وبسماواته الليلية المزروعة بحلزونيات النجوم والأجرام والشهب الملونة الملتفّة على ذاتها «بمولوية» صوفية أقرب إلى الفناء والعدم منها إلى البقاء.

ثم غضب وصخب الغيم والسحاب، وفتحة السماء الصاعقة البارقة خلف شبح كنيسة الضيعة عند الأفق، تنهمر بعد ذلك أسراب الغربان من بؤرة هذه العاصفة، منقضّة على فناننا وعلى المشاهد.

دعونا نقفز إلى مجموعة مناظره الدرامية الغارقة في سهول وحقول القمح ووهاده وأكماته وغيطانه الذهبية المنجزة عام ١٨٩٠ والتي سبقت انتحاره. مشاهد سيزيفيه تقطر بالحصار الروحي والألم والقنوط الذي يعتمل في أغوار دواخله دون هواده.

تبدو اللوحة المذكورة وليداً شرعياً لأسلوبه المتوجع بالحيز الهمودي وضجيج السماء وأسراب غربانها وتهشيرات مشتقات حرائق الأصفر والناري مقابل تحزيزات الأخضر المشعّ بقلق، ناهيك باكتشافه المبكر الخصائص التشكيلية والعجينية المغامرة، الطازجة، التي لا تقبل مصادفاتها التعديل، تتصل بشرارة كهربائية الانفعالية الباطنة.

ثم إن أسلبة الحومان الحلزوني ترسخت بعد تعرفه بشبق خاص على محفورات وطباعات المعلم الياباني في الإستامب هيروشيج، تدرب على إعادة رسم خطوط موجاته وحلزونياته الطبيعية حتى درجة الهذيان الالتفافي الانطوائي. هو الذي يشارف الجنون، وبلغ به الأمر إلى حد نسخ بعض الأعمال الملونة (الليتوغراف) لهذا العملاق الآسيوي، على غرار لوحة المراكب، ومجموعة أزهار الربيع ثم الجسر الياباني.

أعاد المخرج الياباني العالمي الأكبر كيروساوا استثمار المناخ اللوني الشطحي لهذا الجسر التوليفي في فيلمه (دريم) أي حلم، حيث تحولت ذاكرة موقع هذا الجــسر في الواقع واللوحة إلى مكان حميم من قصص شعرية يابانية تخرج من لوحة فان غوغ.

تابعنا على تلغرام تابعنا على تويتر