لا يكاد يوجد شر محض ولا خير محض في هذه الدنيا ، أيضا لا توجد لذة خالصة لا يعكرها منغص، ولا محنة خالصة لا يتخللها شيء من اللطف الإلهي والمنحة حتى أن الاكتئاب، الذي يكاد يكون انتحارا سلبيا بطيئا، لا يخلو من فائدة؛ فهو يورث الإنسان نوعا من (الحكمة) : ذلك أنه يعطل الشعور الطاغي بالإعجاب و (الإنبهار) بالأفكار الرائجة البراقة، وبالشخصيات التي تسالم الناس على تميزها وعبقريتها : إنه يعطل عمل ما يصطلح عليه أخصائيو الدعاية والإعلام بالـ wow factor .
فترى الأشياء نتيجة لذلك بواقعية أكبر، فعين الضجر، كعين الغضب تبدي المساوي، وتطمس البريق الخادع الذي يغلف الأفكار المبتذلة، وتهاويل الشهرة، وتزاويق الأفكار التي ليس خلفها طائل ولا معنى.
قال الشاعر:
إذا جاء موسى وألقى العصا
فقد بطل السحر والساحر
والاكتئاب بما يتضمنه من ضجر ممض يورث صاحبه زهدا حكيما – إن جاز لي التعبير – بالعلوم والكتب والإجازات والمناصب والألقاب … إلخ، واستهانة ساخرة بالحيثيات و(بالهيلمان) المنسوج حول أصحابها.
قال بعض الفلاسفة يوما : لم يبق معي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست أعلم وهو معنى مشهور ورد في سفر الجامعة من مزامير داوود – الذي صاغه على ما يبدو حكيم مكتئب لا نبي كريم – حيث قال : (لا جديد تحت الشمس)، إنه شعور بعبثية المعرفة، واطأهم عليه إمام الحرمين الجويني بعد عقود من الطلب، حين قال أبياته المشهورة التي مطلعها “نهاية عقول العالمين عقال”، وهي نتيجة قد تصل إليها بنفسك أيضا، لكن عبر طريق أقصر من الألم المضني الممض.
ولعلك ستستشعر آنذاك – من خلال آلامك – بأنك امتلكت علوم الأولين والآخرين؛ فوجدتها هذرا وهباء :
تنظر إلى رفوف من الكتب فتتصور أنك قد أحطت بكل ما فيها، ثم نسيتها واحتفظت لنفسك بزبدتها وخلاصتها، وتطالع وجوه الناس في الطريق؛ فتخال في نفسك القدرة على تلخيص حياتهم كلها بكلمة أو كلمتين.
لكن تريث إذ أنه يلزمك – يا صاح – عندها أن تدفع الثمن !! فبزوال ذاك البريق الخادع، تزول البهجة والطعم. من الحياة، وتضطر لمواجهة آلامك بلا مسكنات، وإذا زاد الاكتئاب عندك، فستنقلب تلك الواقعية المستهترة في النظر إلى الأمور منظارا أسود، يفقدك تماما القدرة على رؤية الخير والجمال، كما أن الاكتئاب يسمم حياتك ببطء، وإن لم تتدارك نفسك قبل فوات الأوان فلا مناص لك من الغرق في لجة الأحزان حتى الاضمحلال.