يُعد مسجد سيدي أبي الحجاج الأقصري في مدينة الأقصر جنوب مصر، معلماً أثرياً يقصده زوار المدينة من بلدان عربية وأجنبية، إذ تشتهر المدينة التاريخية في صعيد مصر بكثرة المعابد وآثارها الفرعونية.
ووضعت اللبنة الأولى للمسجد وسط أحد أشهر الميادين الذي يحمل الاسم ذاته قبل 800 سنة، فوق أعمدة وجدران معبد الأقصر الفرعوني، في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأعيد بناء المسجد في القرن التاسع عشر، ومن ثم رمم في أوائل القرن العشرين. ويمتاز هذا الموقع بالجمع بين حضارات ثلاث عرفتها مصر القديمة وهي الفرعونية والمسيحية والإسلامية.
ويعود اسم المسجد إلى أبي الحجاج الأقصري وهو أحد الوافدين من بلاد الحجاز إلى الأقصر، وهم أناس كانوا يخرجون في منتصف شهر شعبان من كل عام في موكب شهير يطلق عليه «دورة أبي الحجاج»، وهو موكب شعبي يشبه موكب الأوبت الذي كان يقام في مدينة الأقصر في عصور الفراعنة، وفيه يخرج قدماء المصريين حاملين مراكب آمون، من الكرنك إلى معبد الأقصر.
ويتمثل موكب سيدي أبي الحجاج في جر الآلاف للمراكب النيلية التي تعرف باِسم مراكب أبي الحجاج، في شوارع المدينة، في تقليد سنوي، بدأ قبل أكثر من 800 عام، ويتواصل في المدينة التاريخية حتى اليوم.
وتقول الدكتورة سعاد ماهر محمد، في كتابها: «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون» إن البقعة التي تضم مسجد الشيخ أبي الحجاج، وسط مدينة الأقصر، كانت مكان عبادة على مر العصور والأزمنة، ففيها أقيم معبد آمون الفرعوني، وتوجد بها بقايا كنيسة مسيحية رومانية، ثم شُيد المسجد في صورة تجمع بين ديانات وحضارات متعددة».
وتضيف: «في النصف الثاني من القرن العشرين أقامت وزارة الأوقاف مسجداً جديداً بجانب المسجد التاريخي لأبي الحجاج الأقصري، ويعد الجزء الأقدم في المسجد اليوم هو المئذنة، إذ يرجع تاريخها إلى وفاة أبي الحجاج عام 642 هجرية، وتتكون من ثلاث طبقات الأولى عبارة عن مكعبين، والثانية والثالثة في أشكال أسطوانية، وفي الدور الثالث مجموعة من الفتحات مصفوفة في صفين، والمئذنة مبنية بالطوب اللبن، وتمثل في تصميمها مآذن العصر الفاطمي».
ولد أبو الحجاج الأقصري في أوائل القرن السادس الهجري، في مدينة بغداد، في عهد الخليفة العباسي المقتفي بأمر الله، ونشأ في مسقط رأسه في بغداد في أسرة ميسورة الحال على قدر كبير من الورع والتقوى، إذ كان والده يشغل منصباً رئاسياً في الدولة آنذاك؛ وبات يتيم الأب وهو ما زال حدثاً يافعاً لم يترك له والده شيئاً يذكر فاحترف صناعة الغزل والحياكة وكان له حانوت مشهور في بغداد.
لكن هذه الحرفة لم تكن تشغل وقته كله، فراح يهتم بطلب العلم، خصوصاً أن مدينة بغداد كانت تشتهر آنذاك بأنها مستقر لعدد كبير من رجال التصوف وعلماء الدين الإسلامي الذين كان لهم أكبر الأثر في ازدهار الحياة الثقافية والدينية في العراق، مثل الشيخ عبدالقادر الجيلاني والشيخ أبو النجيب السهروردي والسيد أحمد الرفاعي، بجانب المدرسة النظامية، التي كانت أول مدرسة مذهبية في تاريخ الإسلام، والتي أنشأها الوزير نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي، في القرن الخامس الهجري.
والتحق أبو الحجاج بتلك المدرسة، حيث زامل الإمام شهاب الدين السهروردي، كما كان يتردد على حلقات الوعظ والتذكر التي كان يعقدها شيوخ التصوف وأعيانه، وكان أبو الحجاج جاداً شغوفاً صبوراً في القراءة والبحث والتحصيل.
وبعد أن تزود أبي بقدر كافٍ من الثقافة الدينية، ترك صناعة الغزل والحياكة، ليتفرغ للوعظ والتذكير في بغداد، وقد أقبل العراقيون على وعظه إقبالاً شديداً، وذلك لتميزه بغزارة علمه وورعه وتقواه، وتمكنه من الرواية بأسلوب يتسم بالرقة والسهولة واليسر، فأخد بوجدان السامعين.
وعرف سيدي أبي الحجاج الأقصري نظم الشعر، إلى جانب علوم الفقه، ومن أعماله العلمية الباقية منظومته في علم التوحيد التي ضمنها 99 باباً وتقع في 1333 بيتاً من الشعر وقد استهلها بالبيت التالي: «الحمدلله العلي الصمد – الأول الآخر بلا أمد».