مؤتمر إعادة بناء الدراسات الإسلامية في الجامعة الأميركية

تحمل قصة ابن طفيل الفلسفية (حيّ بن يقظان) أمثولة التلاقي بين حيّ بن يقظان العارف بالعقل، وبين آسال العارف بالرسالة. كما تحمل القصَّة أمثولة تلاقي حيٍّ بسلامان ومجتمعه الظاهريّ، ولعلَّ هذا التلاقي -بين حيٍّ العارف غير الناطق وآسال العارف الناطق من جهة، وبين حيّ والسائد المجتمعيّ من جهة أخرى- يفترض ضرورة الجمع بين علوم الأديان والعربية وآدابها والإنسانيات في الدراسات الإسلامية.

غير أنَّ قارئ الأقصوصة نظريّاً قد لا يُفكِّر بفاعليَّة هذا الجمع وتداعياته الفكرية على المتديِّن والأكاديميِّ والمتصوِّف والفقيه والأديب وعالم الاجتماع، ذلك أنَّ ابن طفيل لا يركِّز على أثر حيٍّ في مجتمع سلامان الذي رفض أيّ ترقٍّ عن الظاهر.

من هذا المنظار كان مؤتمر (نحو إعادة بناء الدراسات الإسلامية) في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت على مدار يومَي ٢٨ و٢٩ نيسان (أبريل) نافذةً على هذا التلاقي ولكن بحلَّةٍ ثانية، حلَّةٍ أكاديمية جمعت علميّاً بين دارِسي شُخوص ابن طفيل الفلسفية، قام على تنظيم المؤتمر الدكتور رضوان السيد الأستاذ الزائر في كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية في الجامعة، والدكتور بلال الأرفه لي رئيس قسم اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى، والدكتور ساري الحنفي أستاذ علم الاجتماع.

وبعيداً من هذه الموضوعات، رأى السيد أنَّ الطرح الأهم يكون في درس (أزمنة الثقافة الإسلامية الوسيطة وحيواتها في الدين والاجتماع والتفكير السياسي). وبالتالي اعتماد (القراءة العقلانية النقدية للمفاهيم والمنظومات والمصطلحات). ويرى السيد أهميّة المنهج التأويليّ الذي يعمل (في نطاق حواريَّة النص والجماعة العالِمة والعامة في التاريخ)، ليملك بذلك (إمكانيات كبرى في إعادة بناء الدراسات الإسلامية)، لكون السردية التأويليّة (تقرأ التقليد في حيواته وانسداداته وتصدُّعاته بالمناهج الجديدة). يختم الدكتور السيد محاضرته بسرده لظواهر ثلاث يرى فيها إمكانيات تجديد وإعادة بناء.

تتمثَّل الأولى بتطوُّر العلوم الإنسانية والاجتماعية وقراءة النصّ الدينيّ بالنهج التأويلي، مع (تصدّع سيطرة البنيويات والتفكيكيَّات في قراءات النص الدينيّ والنص التاريخيّ). وتتشكَّل الثانية من التراث الكلاسيكي الذي نملكه اليوم في المجالات جميعها، فعلينا النظر فيه ودراسته (وعدم تركه في أيدي أهل القطيعة أو النصوصية المغلقة).

أمَّا الظاهرة الثالثة فهي (انتشار المئات من الكهول والشباب العرب والمسلمين في معاهد وأقسام الدراسات الإسلامية في الغرب والشرق. وتسرُّب كثير منهم إلى الجامعات العربية والإسلامية). وأهميَّة هذا الجيل تكمن في جمعه بين معرفته بالتراث من جهة وحمله للمناهج والأدوات البحثية العلمية الجديدة من جهة أُخرى. لتنبِّئنا هذه الظواهر الثلاث بإمكانيّات واعدة تدعونا إلى (الإصرار والمتابعة من أجل استعادة القِوام والقِوامة).

وقد ضمَّ المؤتمر ٣٥ باحثاً في مجالات الدراسات الإسلامية ومن تخصُّصات أكاديمية شتَّى. ونُظِّمت المحاضرات في سبع جلسات وعقب كلَّ جلسة حوارٌ بين المحاضرين والجمهور، كما جمع المؤتمر عدداً من مؤسسَّات وجامعات الدراسات الإسلامية فحاضر أساتذة من (مؤمنون بلا حدود) و (مؤسسة سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله) و (الرابطة المحمّديّة للعلماء) و (مؤسّسة أديان) و (مؤسسة الملك فيصل) و (جامعة الأزهر) و (رابطة تونس للثقافة والتعدُّد)، وكذلك بعض الجامعات العربية والغربية.

دارت الجلستان الأوليان على (التجديد في العلوم الشرعية) وطرحت موضوعات تعلَّقت باللاهوت السياسي السنيّ وتداعيات الاستبداد وضرورة الدولة الدستورية، وتجديد التفسير والمعاصرة، وتطوُّر مناهج الدراسات القرآنية. كما بحثت الجلسة الثانية منهجية تدريس الحديث وإعادة بناء علم أصول الفقه وثيولوجيا الأديان.

ودارت الجلسة الثالثة حول (ربط العلوم الشرعية مع العلوم الاجتماعية والإنسانية)، بما في ذلك من علاقة العلوم الاجتماعية بالعلوم الشرعية وسُبُل الوصل بينها، ومنهجيات مقاربة الإسلام في الدراسات المعاصرة. واهتمَّت الجلسة الرابعة بـ (إصلاح دراسات الدين: نماذج متعدِّدة في العالم). ونظرت في تطوُّر الدراسات الدينية الأكاديمية في الغرب أخيراً، والعلاقة بين العلوم الاجتماعية والدينية في الجامعة الإسلامية في ماليزيا، والتحديات الرئيسية للدراسات الدينية للمجتمع المسلم في فرنسا. ودرست الجلسة الخامسة مساعي بعض المؤسَّسات العربيَّة في (إصلاح دراسات الدين)، فكشفت عن أعمال الرابطة المحمَّدية ومنشوراتها في حقل الدراسات الإسلامية وتطوُّر ثيولوجيا الأديان في الدراسات الأكاديمية وفلسفة الدين في الدراسات الإسلامية المعاصرة من المنظورَين الكلاميّ والتأويليّ وأخيراً مستقبل التصوُّف في الدراسات الإسلامية.

بينما نظَّرت الجلسة السادسة لـ (تجديد الخطاب الدينيّ المعاصر) من خلال النظر في مركزية الفكر المقاصديّ وكيفية جعل (النسوية الإسلامية) فاعلة في الدراسات الإسلامية وتحديَّات (الأصالة والمعاصرة) في مناهج الجامعات العربية. وبحثت الجلسة السابعة والأخيرة في مقولة (كلُّ مجتهد مصيب) في أصولها وتداعياتها المعاصرة، وتجديد بناء دراسات التمويل الإسلامي، وأخيراً النظر إلى الناحية الفقهية في النصوص الأدبية مع التنوخي أنموذجاً للبحث. وقد قدَّم الدكتور الأرفه لي ورقةً اختتمَ بها أعمال المؤتمر بعنوان (الفقه الإسلامي والأدب: التنوخي نموذجاً) ركّز فيها على دور الأدب كنافذة للمجتمعات الإسلامية في العصر الوسيط وكيفية الاستفادة منه لترميم معرفتنا بالقضاء والدعاوى.

وقد التمس الأرفه لي في مقابلة له من الجامعة الأميركية لعب دورها الأكاديمي والتحرُّريّ والنهضويّ في توظيف العلوم الإنسانية للقيام بنهضة فكرية، وتشكيل منصَّة للتفكير في إعادة بناء حقل الدراسات الإسلامية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.

إنضم لقناتنا على تيليجرام