جدة بوابة الوصول إلي الديار المقدسة

على مقربة من تحقيق حلم العمر في أداء فريضة الحج، تتذلل امامك جميع الصعوبات وتتقمصك طاقة غريبة من الصبر والاحتمال، وتتجاوز كثيرا من المنغصات، لان الرحلة ليست عادية، فهي انتقال وارتحال من أرض الواقع المليء بالهموم والأوجاع والعذابات الدنيوية إلى التحليق في سماوات من الرحمة

وفيوضات البركات الإلهية، أنها رحلة نادرة إلى ممالك قدسية وربوات فقيرة تختصر تاريخ النبوات كلها، وتنتهي عند قصة خاتمها الأعظم بين الانبياء،انها رحلة فصلية للاغتسال من ادران الدنيا الفانية، والالتحاق بمملكة الربوبية الأبدية،والاغتراف من فيضها المقدس والتزود ببركاتها لأعوام عجاف ستنتظرنا في أوطاننا التي تمزقها الخلافات البشرية.

الإحرام في حقيبة السفر
عدة السفر ومحتويات الحقيبة ستذكرك دائما، بسلاسة انتقال الروح الى بارئها في المطاف الأخير والنزع النهائي، ستذكرك في انتزاع الجسد من وحل الدنيا إلى آفاق السماء الكبيرة وأبوابها الرحبة، عدة سفر الحاج ستذكره ببياض الأكفان ورداء الروح الأول حينما تنفصل عن جسدها، ستذكره دوما بفرصة النجاة من آثام الذنوب الكبيرة والركون إلى مواطن التوبة والاستغفار، والتنازل عن ملذات عابرة وأهواء مستحكمة طلبا لملذات لا تنفد وغايات لا تنتهي.
بعد ساعات من الانتظار في مطار بغداد ستحلّق بك الطائرة بعيدا، لايشغلك في هذه اللحظة من الترقب والانتظار سوى شكل الأرض ولون السماء التي احتضنت قصة النبوة، وتهيىء لك شرف بلوغها وانت في كامل عافيتك ولياقتك كي تؤدي مراسيم الحج التي توارثتها النبوات الاولى واكتملت عند كعبتها شرف خطوات آخر الأنبياء وخاتمها محمد رسول الله الاعظم (ص) على اتم وجه دون الوقوع بهفوات تكلفك تكرار أشواط الحج وعناءاته المصحوبة باللذة والسرور.
في جدة ستنفتح الروح على مسالك جديدة لم تألفها من قبل، وستفتح الذاكرة صفحاتها لكتابة فصول جديدة لها نكهتها التي لن تزول، وطعمها الذي لن يغادرك، مهما ازدحمت أسماء المدن الغريبة في كتاب تجوالك وغربتك، ومهما تهيأت لك فرص الوصول الى ممالك ممهورة بالاضواء والغربة فستبقى تلك اللحظات الأولي وانت تعانق مدينة جدة تؤرخ لفصل حياتي سيمكث طويلا في ذاكرتك وستبقى مدن الله (مكة والمدينة) متوهجة بين المدن التي ستزورها وتبلغ مطاراتها وتتجاوز حدودها.
ثمان أوتسع ساعات ستقطعها الحافلة من جدة،وسط كرنفال من المساء المحتشد بنجوم الله وصفاء البرية لكي تصل الى مدينة الرسول،لتكتحل عيناك هناك بمآذن مسجده الشهير، وتلج ابواب الرحمة في باحته المقدسة المسماة بأسماء الأنبياء والخلفاء والأئمة وستلّح كثيرا في دخول (باب علي) ذلك الذي كان يفتحه نبي الرحمة ليشير من كوته الى من سيرث التاريخ النبوي بعده، بجدارة الأيمان وبسالة المقاتل الفذّ والحاكم العادل والعابد الورع بصفات تندر ان تتكرر في شخصية اخرى، ثمة نور يشع من وسط القبة الخضراء للمسجد النبوي يلامس روحك ويملؤها بالطمأنينة التي افتقدتها منذ سنوات طويلة، لربما بسبب عذابات الحروب التي لم تنقطع في بلادنا،ولربما بسبب احتدام الافكار الوضعية واغواءاتها الشيطانية، لربما بسبب لحظات الضعف البشري واغواءات الدنيا وبهرجها الزائل،ولكن هنا تحت تباريح مملكة النور النبوية لايسكنك سوى الطمأنينة، ولايلامسك الا ذلك الخيط الطويل من الصفاء الممتد من تراتيل الحجيج وأدعيتهم ونحيبهم الممزوج بشوق اللقاء ومسراته.
على مقربة من الفجر تصل لبوابة المدينة المنورة ومع حلول آذانها الملائكي المنبعث من عطر النبوة واريج ذكرياتها وانبلاج طلائع فجرها البهي تعاهد النفس والروح على مغادرة الذاكرةالدنيوية مؤقتا،فلاشوق الا شوق الوصول الى بوابات النور في عاصمة النبوة والهدى، ولارغبة الا رغبة الاغتراف من انهار التوبة التي تنساب من ازقة وحواري هذه المدينة وجبالها ونسماتها العطرة وسكون ليلها العجيب.
هنا يذوب الزمن وسط هذا الكرنفال المقدس وتتداخل وحداته وتتسارع لحظاته بقوة هذه الامدادات القدسية التي تأتي من منابع الرحلة وفيوضاتها الملائكية، من تلك الذكريات التي مضى عليها قرون طويلة بحسابات التاريخ، ولكنها مازالت طازجة تتمثل في اية لحظة كما هي بتفاصيل وقائعها الاولى ونور رموزها وحضور احداثها،وتتجلى باي وقت محتفظة بقوة دفق ذلك الزمن النبوي الذي غير وجه الارض وملأها نورا وعدلا بعد ان ملئت ظلما وعدوانا وجورا،يندر ان توجد على خارطة العالم مدينة تناظر هذه المدينة المنورة بالنكهة والعطر وصفاء الليل وسكون الفجر وصخب التراتيل وهدوء الارض وذكريات الحجر،مدينة تمنحك كل هذه المسرات والنشوات الروحية دفعة واحدة وبدفق متواصل لاينقطع،ولهذا سيكون فراقها عليك صعبا، وشوقك اليها كبيرا، ومغادرتها لك شاقة،ولكن لانك بصحبة اصدقاء نبلاء،ولانك ستواصل شوط الرحلة المقدسةفي مدينة هي من اشرف مدن الله على الارض وحرمتها من اقدس الحرمات مدينة مكتنزة بالذكريات وعطر النبوات وتراتيل العباد المخلصين،مدينة لاتقل قدسية ولاجمالا ولابهاء عن المدينة المنورة،وذلك كله سيكون عزاءك في فراق المدينة وصعوبة احتمال مغادرتها.

بيار علي محطة الاغتسال وارتداء الإحرام
وسط ايقاع تهاليل التوحيد وانغام الايمان وسمفونية الحجيج (لبيك اللهم لبيك… ان الحمد والنعمة والملك لك لاشريك لك… اللهم لبيك)) تغادر اخر وسوسات الشيطان ونزعها وتندحر آخركوابيس الشكوك،ومع قطرات الماء الاتية من نبع علي المسكون بمعجزة الامام المولود في الكعبة امتيازا وتشريفا واعجازا،تغتسل هناك مما تبقى من ادران الدنيا العالقة على الجسد ومع ارتدائك لبياض الاحرام تبدأ فصلا جديدا من فصول الرحلة القدسية. لحظات تسجل حضورها الكثيف في سجل الذاكرة وتشهد لك في ما تبقى من العمر وأيامه التي ستنقضي بين عذابات وطن سوف لا تفارقه النكبات بتلك السهولة واليسر التي تتوقعهما او تتصورهما!
تقترن لحظة الوصول الى مكة بمشهد افواج الحجيج الذين يتموجون كطيور بيضاء على خاصرة الكعبة المكرمة يتوحد التاريخ بايقاع ادعيتهم وتهتز فرائصك ويقّشّر بدنك،لذلك المنظر المهيب الذي لن تنساه ذاكرتك ولن تهمله في خضم وقائعها اللاحقة، فعندما تتحول اطواق الحجيج الى طيور ملائكية تصعد من الارض الى منصة التشريف الالهي وترتقي محلّقة في سموات الله وهي تغرد باناشيد الله،ترتبط الارض في السماء بآصرة غريبة وتتقارب الامكنة كلها في تلك الحظة لتتجمع صاغرة تحت ذؤابات الستارة السوداء الملقاة على الكعبة المشرفة لتحكي لزائريها قصة لن تتكرر عن توارث النبوات على هذه البقعة المطهرة والتي تشرفت بخاتم الانبياء (ص) وانهت على يديه فصول الاذلال البشري والاستعباد العقائدي الوثني، ستبقى منتشيا في تلك اللحظة الصاعقة التي اقترنت بفجر الوصول الى مكة مكفنا ببياض الاحرام، ومتقمصا بصدق الذوبان بتلك الصيرورة الالهية التي تتموج بافواج البشر من كل اصنافهم ومنذ فجر الرسالة حتى لحظة وصولك اليها، تهنئ نفسك على حيازة هذا الفرح النادر، وتبارك لك ولاصدقاء الرحلة النورانية هذه الفرصة المباركة، وتتصافحون بعدها بصدق متمنين قبول الاعمال وراجين اغتسال الذنوب المخفية منها والمعلنة، والحج ليس ككل الاعمال العبادية، لأنه رحلة حقيقية للهروب من آثام الدنيا الى عيون التوبة العذبة وآبارها السلسبيل،لانه اختراق لوحدات الزمن الدبق والتحليق بسموات من الانتشاء وتهويمات الروح وتباريحها، لانه هدنة مؤقتة من وسوسة الشيطان واندحاره الكبير امام رحاب الرحمة المفتوحة والمتسللة من الربوات  والجبال و الستارة السوداء الى ممالك الاجساد وحروف التراتيل وسكنات الاحلام النورانية.

الليل في مكة
الليل في مكة تطرزه نجوم الصفاء الإلهي وتحتشد عند بواباته ملائكة الرحمة وتبهرك خدمة المملكة وكادرها الوظيفي وفصائل الكشافة المتطوعين من طلبة المدارس والجامعات،في خدمة ثلاثة ملايين حاج يأتون من كل العالم يرسمون على شوارع المدينة ومكة بخطواتهم وابتساماتهم وأصناف ازيائهم وألوان سحناتهم واختلاف السنتهم، وحدة بشرية في غاية التنسيق والتهذيب في حضرة الله وملائكته التي تسكن الأمكنة وتتقمص الأزمنة وتصغي لتراتيل الحجيج وأدعيتهم الصادقة، وحدة طالما عجزت عن تحقيقها حكوماتهم وانظمتهم السياسية،وهذه احدى معاجز الحج الموسمية التي يتلمسها اي حاج قادم من وطن تتقاسمه الانفصالات سعيت لالتقاط هذه الصور الموحدة لبني البشر بمختلف ازيائهم وتلوناتهم لكي احكي هذه المعجزة التي هندستها وصايا الانبياء المتوارثين عرش الكعبة من اسماعيل الى محمد خاتم الانبياء،سنغاليون وصينيون وبنغال وعرب واتراك وأوربيون من كل بقاع الارض، حضروا الى هذا المؤتمر العالمي الموسمي ولبّوا النداء القرآني المتجدد الذي يحكي عن قصة ارتحالات البشر ورغبتهم في الخروج من انفاق الدنيا الى رحاب السموات، وتحكي فصل ذهبي من تاريخ الاسلام،وفصل مشرف من النضال الانساني، واللحظات الاولى لانطلاق الرسالة التي راهن فيه الرسول(ص) وصحبه القلائل على انتصار الحق على الباطل وتحقق لهم ما ارادوا.
تمضي الايام مسرعة في ذاكرة الحج وفصولها النورانية وتتكثف مباذخها الالهية في تلك الايام القليلة المتبقية من ليالي الترويح والتشويق ونهار عرفة ومشاعر منى ومزدلفة تلك النهارات المضيئة والليالي التي لاتنسى… ليالي المبيت في عراء منى بين الربوات وأمانها لاستكمال اخر اشواط الحج، والتهيؤ للعودة الى الاوطان والشوق للاهل والاصحاب المنتظرين لسرد حكاية النور التي شهدناها على ربوات هذه المدن المقدسة.

وداعا
وداعا مكة… وداعا لتلك الربوات العالية
وداعا لايام النور ومساءات الرحمة وداعا لأخوتي البشر الذين التقيتهم في عاصمة النور ومملكة الهدى من كل السحنات وجميع اللغات وتنوع الالوان وداعا للزمن الذي لايعوض والليالي التي لن تتكرر.
وداعا الى ان نلتقي مرة اخرى تحت قبة النور الاخضر في المدينة او تحت خيمة البردة الشريفة للكعبة الشريفة وداعا للقبور الدارسات تحت ركائز العمارا ت الحديثة ووحوش آلاتها الهندسية.
وداعا الى ان نلتقي او لانلتقي ولكن ستبقى رغبة متوهجة بالعودة وحنين يحرق الفؤاد وهوى يتوهج في القلب لتلك البقاع والأزقة والديار، لتلك الأسرار التي تتقمص الأمكنة والتراتيل وانجذاب الأرواح الى هذه البقاع المقدسة واللحظات النورانية.
الغاز وأسرار يعجز البشر عن بلوغها ويعترف العقل المتواضع بفك شفراتها السرية وعلاماتها العجائبية، سوف لا يبقى سوى تلك البصمة الإلهية التي ستعصمك كثيرا من اغواءات الدنيا وزخارفها وبهارجها الزائلة، ستبقى مبهورا بتلك الهندسة الربانية التي احسنت كل شيء صنعا وقدرته تقديرا وداعا تلك الديار وداعا الى ان نلتقي او لانلتقي الى ان يشاء الله ورحمته.