من مظاهر احتفال الأيوبيين والمماليك بشهر رمضان

على رغم انشغال الأيوبيين (1174- 1250 م) بقيادة صلاح الدين يوسف الأيوبي بالجهاد ضد الصليبيين (انتصر في معركة حطين 583هـ/ 1187م التي اعتبرها مايكل لي لا ننغ من المعارك المئة المؤثرة في التاريخ، واعتبر صلاح الدين الأيوبي أعظم قائد عسكري في زمانه)، كانت تتم إضاءة المساجد والمآذن مع بداية الشهر الكريم. وكان حسام الدين لؤلؤ قائد الأسطول الحربي يحتفل بشهر رمضان احتفالا مشهورا فيملأ ثلاث سفن بالطعام كل يوم ويدخل إليه الفقراء في صفوف منتظمة وهو قائم بنفسه وبيده مغرفة وأطباق فيعطي لكل صائم حظه من السائل والجاف. وكان يبدأ بالرجال فالنساء ثم الغلمان من دون أن يتزاحم أحد عليه وكان لا يهدأ حتى يطمئن إلى أن كل فرد حصل على حقه من طعام الإفطار، ويظل على ذلك طيلة أيام رمضان.

وهذا على عكس ما ذكره بعض المؤرخين من أن الدولة الأيوبية حرَّمت الاحتفالات الدينية التي كانت تقوم بها الدولة الفاطمية الشيعية السابقة لها. وإن كانت قلت في عهد الدولة الأيوبية لانشغالهم بالحروب مع الصليبيين. على أن دولة المماليك (1250م -1517م) تداركت ما تركه الأيوبيون من أبهة واحتفاء بالشهر الكريم، ففي ليلة الرؤية لهلال شهر رمضان كان يخرج قاضي القضاة ومعه القضاة الأربعة للمذاهب الشرعية (الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة) ووراءهم التجار ورؤساء الطوائف والحرف من حدادين وسباكين وحائكين وشماعين لرؤية الهلال من فوق منارة قلاوون.

فإذا ثبتت الرؤية أضيئت الأنوار على المتاجر والدكاكين والمآذن والمنارات وسار قاضي القضاة في موكب رائع يجمع عليه القوم في المقدمة وجمهرة العامة في الوسط والنهاية تحف بهم الشموع والفوانيس ويتقدمهم الجند وحملة المشاعل والمباخر حتى يصلوا إلى ميدان القلعة فيروا السلطان في سرادقه المنصوب ويتقدم إليه قاضي القضاة بالتهنئة ثم ينهض السلطان ليستعرض أحمال الدقيق والخبز والسكر وطوائف الغنم والبقر المخصصة لصدقات رمضان وتمرُ من أمامه بعد أن يتم عرضها في مختلف الشوارع والدروب بين تصفيق المشاهدين وزغاريد الحاضرات.

وأوردت المصادر أن أول ظهور لمدفع الإفطار كان في دولة المماليك على يد السلطان خشقدم اذ كانت جاءته مجموعة مدافع وأثناء تدريب الجنود عليها خرجت طلقة وقت الإفطار فظن الشعب أن هذا إيذان لهم بالإفطار ووجد السلطان خشقدم أن هذا الأمر فيه بركة فقال سأجريه على الناس فكانت هناك طلقتان طلقة عند الإفطار وأخرى عند الإمساك.

وكان السلطان برسباي يجعل الشوارع مضيئة بالقناديل منذ وقت الإفطار حتى الإمساك. وكان السلطان برقوق أكثر السلاطين سخاء فكان يهتم بأوجه البر والإحسان فكان يذبح كل يوم من أيام رمضان 25 بقرة ويتصدق بلحومها على الفقراء والمساكين، وكان يفطر جموعاً غفيرة من الصائمين ويأمر بتوزيع الصدقة عليهم، كما اعتاد السلاطين المماليك إعتاق ثلاثين عبداً في رمضان. وعمرت المساجد بالمصلين، وأعد الدعاة الدروس التي كانت تلقى في المساجد بين المغرب والعشاء منذ أيام الأيوبيين ثم المماليك. وفرض المماليك على كبار العلماء قراءة صحيح البخاري في الجامع الأزهر من أول ليلة من رمضان حتى ختام الأحاديث في ليلة العيد حيث يقام احتفال مهيب بحضرة السلطان وقضاة المذاهب ثم توزع الخلع والهبات على العلماء والفقراء والطلبة داخل المسجد وعلى الأيتام والأرامل والمرضى. فيكتمل في ليلة العيد من السرور والبهجة ما يجعل يومها التالي عيداً بروحه ومعناه قبل أن يكون عيداً بتاريخه وساعاته. وجدير بالذكر أن الأوقاف في رمضان لم تعرف قبل العصر المملوكي، فالمماليك أول من رصدوا في حجج أوقافهم العقارات والأطيان الزراعية لتنفق غلاتها في إقامة الشعائر الدينية وتوزع النفحات المالية طوال أيام رمضان وذلك لم يكن إلا عن عناية حافلة واهتمام أكيد بشهر رمضان المعظم.

وفي الريف في مصر الإسلامية، بخاصة في عهد الأيوبيين والمماليك، كانت هناك مظاهر للاحتفال بشهر رمضان تبدأ بإضاءة المساجد والمآذن من اليوم الأول معلنة قدوم الشهر الكريم، وكان المسحراتي يطوف في الأزقة والحارات بطبلته ومصباحه، وكانت تستمر الذبائح يومياً بالقرى بعد أن كانت لا تشهدها إلا في المواسم المتفرقة مرتين أو ثلاثة في العام الطويل. وكذلك إلقاء الدروس الدينية في المساجد عصراً. وكان الأطفال يلتفون حول المئذنة ينتظرون الصيحة الأولى من الأذان فإذا دوت في السماء تبعها صياح وضجيج فرحاً بموعد الإفطار.

كانت تعقد مجالس قراءة القرآن في منازل الأغنياء ويتوافد الزائرون من كل ناحية يستمتعون بتلاوة القرآن ويشربون البارد والساخن حتى يحين وقت السحور فيقدم صاحب المنزل مائدته لمن يريد ثم يتجه بعد ذلك الناس إلى صلاة الفجر في المسجد. وكانت الشوارع تزدحم وقت الفجر بالمارة حتى وكأن النهار سبق وقته بساعات. وكان لفجر رمضان في القرى من الروعة والجمال ما لا يبلغه الوصف من حلاوة الترتيل للقرآن والخشوع في الصلاة وعلى ذلك حتى نهاية الشهر. ثم كانت توزع زكاة الفطر على الفقراء في عطف وتواد وذلك في اليوم الأخير من رمضان ليلة عيد الفطر.

وهكذا كان لشهر رمضان طقوسه في مصر زمن الأيوبيين والمماليك وإن كانت في دولة الأيوبيين تبدو مظاهر الاحتفالات قليلة لانشغالهم بالجهاد ضد الصليبيين إلا أنها ظهرت بشكل قوي في عهد دولة المماليك.