إن الصيام لم يأت ليوصف كدواء، رغم أنه كذلك، ولا كعلاج، رغم أنه أكثر من ذلك، وإنما هو أولاً وقبل كل شيء عبادة من أسمى العبادات تتجلى فيها طاعة الخلق المطلقة لخالقهم عز وجل.
ما الصيام ؟
لقد عرف البشر الصيام منذ فجر البشرية، وبالنسبة للجسد هو حالة الامتناع عن المعاشرة الجنسية وعن تناول الطعام والشراب بمكوناته المعروفة، وبمعنى آخر هو الامتناع عن تناول مولدات الطاقة التي يحتاج إليها الجسم، ويأتي الصائم بالطاقة من مخزونه، حيث يعمل الكبد كمدير في هذه الحالة، وعليه تقع مسؤولية تزويد أجهزة الجسم بالسكر والطاقة في أثناء الصيام، فهو يستحدث الطاقة من تحلل الدهون ومن البروتينات التي تطلقها العضلات، ويستطيع أن يركب الكمية المطلوبة من السكر الضروري للطاقة، إن آليات ضبط السكر والطاقة وإنتاجهما معقدة جدًا، ولكن جسم الإنسان السليم يتكيف بسهولة مع التبدلات الغذائية في حالة الشبع والصيام.
فوائد جمة للصحة
لقد نوقشت فوائد الصيام الصحية وبشكل علمي مرارًا وتكرارًا نظرًا لغزارتها وتنوعها، ويكفي أن نذكر أنه في المؤتمر الأول لفوائد رمضان الصحية الذي عقد في الدار البيضـاء في المغــرب عام (1994) قد نوقش حوالي خمسين ورقة بحث من مختلف أرجاء العالم، ومن قبل علماء وباحثين، وفي مؤتمر استنبول في تركيا عام (1997) أيضًا قدم خمسون بحثًا، ولله الحمد. لقد تم عام 1997 رصد (282) بحثًا منشورًا في السجلات الطبية حول تأثير صيام رمضان، ويتوقع أن العدد الحالي أكثر من ذلك بكثير.
لقد لجأ الإنسان البدائي للصوم عن الطعام والشراب كوسيلة للتداوي من الأمراض. إننا نستطيع القول بكل ثقة إن فوائد الصيام قد عرفت منذ القدم، وقد ذكرها الأطباء والحكماء في مدوناتهم منذ آلاف السنين. لقد أكدت التجربة أن الصوم يمثل سلوكًا غريزيًا لدى الإنسان وحتى الحيوان للتخلص من العلل والتخفيف منها، لقد أوصى أبقراط بالصيام كعلاج، وازداد الاهتمام بذلك كوسيلة علاجية بعد ميلاد المسيح عليه السلام، ففي السنة العاشرة من الميلاد لاحظ الحكيم «كونيلوس» سرعة شفاء العبيد مقارنة بالأحرار، وعزا ذلك لأنهم أكثر صومًا والتزامًا بالصوم كعلاج، وفي تراث العرب شواهد كثيرة على أن الصوم وسيلة من وسائل الوقاية والعلاج، فقد قيل قديما: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء». لقد عنيت معاهد ومراكز البحث الطبي الغربية بالصيام كعلاج، وأدى ذلك إلى اعتماده وسيلة للتداوي في العديد من الحالات.
فالصيام يصل نفعه لكل خلية من خلايا الجسم، فلقد ثبت أن الصيام يريح الجهاز الهضمي من عبء الوجبات المتكررة وثقلها، ويساعد على الاسترخاء، وعلى التخلص من الفضلات والشحوم الزائدة ليستعيد نشاطه وحيويته بقية العام.
يشكل رمضان فرصة واقعية جماعية رائعة كي نغير من سلوكنا الغذائي، إنه فرصة حقيقية لمرضى البدانة وارتفاع شحوم الدم وارتفاع ضغط الدم والمصابين بأمراض الكبد والكلية وأمراض الشرايين وخناق الصدر، فلقد أثبتت الدراسات فعاليته في خفض نسبة الكوليسترول في الدم، وخفض نسبة ترسبه على جدران الشرايين الدموية، وهذا يقلل ـ بإذن الله ـ من الجلطات القلبية والدماغية، ومن ارتفاع ضغط الدم، ويقلل من حصيات المرارة والطرق الصفراوية.
تهذيب للنفس والجسم
إن الصيام الذي يهذب النفس والروح يهذب الجسم ككل أيضًا، فالصيام يساعد على تنشيط وظائف الكبد البيولوجية، ويخفف العبء عن المعدة والأمعاء والمعثكلة (البنكرياس) والمرارة والكبد، فبالصيام يقل كثيرًا الطعام وعدد الوجبات، ويساعد هذا على تنظيم التنفس لأن الأمعاء بطابعها تضغط على الصدر والقلب، وبالصيام يصبح التنفس مريحًا، ويقل عدد ضربات القلب وحركات التنفس لأن الجسم تقل حاجته لكميات الدم الكبيرة اللازمة للجهاز الهضمي في أيام الإفطار العادية، كما يقل العبء الواقع على جهاز القلب والدوران حيث تقل كمية الطعام المهضوم المتبقي والذي يحمله الدم عبر العروق إلى كل أجزاء الجسم، كما تنقص الفضلات الناجمة عن استقلاب الغذاء وبالتالي ترتاح الكليتان وفي الوقت نفسه تزداد عملية التخلص من سموم البدن في القولون والمثانة والكلية والرئة والجيوب والجلد، وذلك على شكل مفرزات مثل المواد المخاطية من القناة الهضمية أو حتى من الطرق التنفسية كالقصبات أو الجيوب.
يعمل الصيام أيضًا كمهدئ للجسم والأعصاب ويخفف من شعور الإنسان بالألم، ومن الجدير ذكره أن أول خلايا الجسم التي تستهلك كغذاء خلال الصيام هي الموجودة في الأماكن المصابة بالأمراض والشيخوخة والالتهابات، وبهذا يتخلص الجسم منها بإذن الله.
ومن الحالات التي تستفيد من الصيام أيضًا بعض الأمراض التي يحدث فيها احتقان وزيادة في المفرزات مثل التهاب القصبات الهوائية وحالات النزلات التنفسية مثل الرشح والإنفلونزا، وكذلك الصداع والإمساك وعسر الهضم والإسهال والحساسية أو الأرج الغذائي، وحالات الحساسية تجاه العوامل الطبيعية والربو والحالات الجلدية المختلفة، وحالات ارتفاع درجة حرارة البدن، وآلام الظهر والأمراض العضلية، والأمراض المفصلية، والتهاب المعدة.
إن مجمل تأثيرات الصيام تنعكس على الجسم نضارة وحيوية ونشاطًا وشبابًا وبعدًا عن الشيخوخة ـ بإذن الله ـ مع زيادة المقاومة للأمراض، وإن مما يجدر ذكره أن المعايرات الهرمونية قد بينت أن هرمونات الشدة لا تتأثر بالصيام، وبالتالي فالصيام حالة غير مجهدة للجسم.
معالجة نفسية
مع التقدم في العمر يصبح الشخص أقدر على الصبر، ويتخلص بعملية النضج هذه تدريجيًا من حاجته للإشباع الفوري، وهذه ميزة أساسية من ميزات النضوج. إن الصيام هو امتناع عن إشباع بعض رغبات النفس وبعض حاجات الجسم في وقت معين، وفي هذا تدريب للنفس على ما يدعوه علماء النفس «تأهيل الإشباع» وهذا هو ما قصدناه بمعيار النضج عند البشر، فالصيام بذلك هو دورة تدريبية فعالة وحيوية تتكرر كل سنة يستخلص منها الإنسان كل فوائد الصبر، وبما يدفعه نحو المزيد من نضج الشخصية وتكاملها.
يعتبر صيام رمضان أكبر فوز في حياة الإنسان كونه انتصارًا للإنسان على نفسه وشهواتها، وكونه بحد ذاته تربية للنفس على الإخلاص في كل شيء، وبطبيعة الحال إحياء الضمير والحفاظ على يقظته.
يعمل الصيام كعامل مهدئ فعال للإنسان، وهو بمجمل تأثيراته ينفع ـ بإذن الله ـ في الوقاية من حالات التوتر النفسي والجسدي وعلاجها، وحالات الأرق، واضطرابات النوم المختلفة، وحالات التعب والإرهاق، وحالات القلق والاكتئاب وحتى الفصام (الشيزوفرينيا). ويفترض أن أجواء رمضان الروحانية تخفض من نسبة الأمراض النفسية العضوية إلى حد كبير، كما يشكل الصيام أيضًا فرصة رائعة للمدخن كي يقلع عن سجائره المدمرة، كما أنه فرصة ممتازة لأن نخلص أنفسنا وأبناءنا من أقنية تلفازية لا تراعي ذوقًا ولا أخلاقًا، وكذلك فإنه من المعروف أن الصيام علاج لتخفيف الرغبة الجنسية وضبطها، وينصح به للذين لم يتيسر لهم أمر الزواج بعد، وكذلك فإن الصيام مدرسة للتعليم على الصبر والنظام في الحياة، وللتعود على استرخاء البدن وتقوية الإرادة وزيادة الاستقرار النفسي والعاطفي بإذن الله.
دواء للسمنة
لقد أصبح معروفًا أن جزءًا كبيرًا من أمراض البشر مرده إلى زيادة التغذية أكثر من نقصها، وخصوصًا في بلدان العالم المتطور، فمرض السمنة أصبح من الأمراض الأكثر شيوعًا عند مختلف الأعمار. وتعتبر نسب البدانة في المملكة العربية السعودية واحدة من أعلى النسب في العالم وذلك عند الجنسين وخصوصًا عند النساء، وتأثيرات البدانة خطيرة على البدن، فهي تؤثر على المفاصل وتؤدي إلى أمراض تنكسية في العمود الفقري وغضاريف المفاصل، ولقد أصبحت العيادات زاخرة بحالات الألم الظهري وآلام الركبتين والقدمين، وتترافق أيضًا مع ارتفاع شحوم الدم والكوليسترول، تلك المواد التي تترسب على بطانة العروق الدموية مسببة تصلب الشرايين ما يؤدي إلى نقص التروية القلبية الذي يؤدي إلى خناق صدري أو احتشاء عضلة قلبية ( جلطة )، وكذلك يرتفع ضغط الدم، وتحدث المشاكل الدماغية من نزف إلى تخثر دماغي قد يؤدي إلى شلل شقي وأحيانًا وفاة.
تؤهب البدانة أيضًا لداء السكري وللحصيات المرارية، وضيق التنفس عند أقل جهد، بالإضافة إلى التأثيرات النفسية والجمالية.
في الولايات المتحدة اعتمدوا طريقة لتخفيف الوزن تعتمد على أسس هي :
- تسجيل دقيق للطعام المتناول وكيفية تناوله ووقته.
- تبديل المنبهات التي تتحكم في الأكل ومراقبتها.
- تطوير وسائل لمراقبة الأكل.
- دعم السلوك الذي يؤجل الطعام أو ينظمه.
وبقراءة موضوعية ومتأنية لتلك الأسس نجد أنها كلها تتحقق وبشكل فائق في صيام رمضان، وكأنها قد استمدت منه، إن رمضان يشكل بالفعل حلاً مثاليًا للبدانة ومشاكلها.
وماذا حول ذوي الاحتياجات الخاصة في رمضان؟
الإعاقات هي من الحالات المزمنة التي تعتري صحة الإنسان، والمعوق كغيره يدخل سن التكليف الذي يجب عليه فيه الصيام، ولكن هناك حقيقة أن الإعاقات ليست واحدة، وشدتها ليست متماثلة، وتأثيراتها على الإنسان تختلف من حالة لأخرى، ولذلك نستطيع أن نصنف الحالات على الشكل التالي :
- الإعاقات الحركية: وعمومًا لا تؤثر على المعوق من ناحية القدرة على الصيام، ويجب تقديم المساعدة الممكنة للمعوق كي يتمكن من أداء عباداته، وكذلك الحرص على أن يتلقى فطوره وسحوره بشكل مناسب.
- الإعاقات البصرية: كذلك لا تؤثر على المعوق من ناحية الصيام، ويجب مساعدة المعوق البصري ما أمكن كي نسهل عليه مهمة أداء العبادات والواجبات الرمضانية.
- الإعاقات السمعية: أيضًا ليس لها تأثير على الصيام، وعلينا مساعدة المعوق السمعي ما أمكن خلال رمضان، وخصوصًا إخباره بأوقات الفطور والسحور وتحديدًا إذا كان يعيش وحيدًا.
- الإعاقات العقلية: وتعتمد الحالة على شدة الإعاقة، ومعظم أصحاب الإعاقات العقلية لا يستطيعون الصيام.
- الإعاقات المختلطة: وهي حالة اجتماع أكثر من إعاقة عند نفس الشخص، وهنا يعتمد الأمر على مدى تأثير كل إعاقة بحد ذاتها على المعوق.
حول الفطور والسحور
هناك عادات غير حميدة قد تفقدنا العديد من مزايا الصيام، حيث إن بعضهم وبمجرد سماع صوت المؤذن يهب للمائدة ليتناول من أصناف الطعام ما لذ وطاب، ويحمل معدته وأمعاءه ما يزيد عن طاقتها، ويحدث عسر الهضم وقد يقضي ليله في المشافي، لا سمح الله، على الصائم أن يبتعد عن الإكثار من الطعام ولا سيما الأطعمة الدسمة والحلويات الزائدة والمآكل الثقيلة، فالوجبات يجب أن تكون كما هي في الشهور العادية، مع مراعاة الإكثار من السوائل والأطعمة الخفيفة التي يسهل هضمها وتعين الصائم على عبادته وعمله، وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر التمر ذلك الغذاء الدواء، حيث إن الصوم يخلي المعدة من الغذاء، والحلو أسرع شيء وصولاً للكبد وأحبه إليه، ولا سيما إن كان رطبًا فيشتد قبوله له فينتفع به هو ومعه الجسم، وإذا لم يتوفر الرطب فالتمر، لحلاوته وقوته الغذائية، وإن لم يكن فحسوات الماء التي تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم، وعدا التمر هناك روائع مثل اللبن والعسل والثمار، وكلها نعم منّ الله بها علينا.
ينصح بوجبة رمضان ألا تحتوي على منبهات وحوامض وتوابل كثيرة، وأن تحوي قليلاً من الدسم، وأن تكون الكمية المتناولة قليلة، لأن تناول وجبة كبيرة وبمدة زمنية قصيرة يؤدي إلى بطء إفراغ المعدة، وهذا يؤدي إلى شعور بالثقل والامتلاء، يجب أيضًا عدم الإفراط في تناول الماء البارد لحظة الإفطار.
إن رمضان مناسبة لأن نعود أنفسنا وأطفالنا البعد عن أطعمة تقذفها المصانع إلينا بالأطنان، وفيها من الضرر ما يفوق النفع ونعيدهم وإيانا للذوق الغذائي السليم.
يجب أن تكون وجبة السحور خفيفة ما أمكن، فتكون مثلاً من التمر والزبادي (اللبن) والحليب والخبز وشرائح اللحم المسلوق والفواكه والخضار والعسل والحبوب وما شابه. ويحبذ عدم النوم بعد تناول السحور مباشرة لأن الجهاز الهضمي يكسل في أثناء النوم، وننصح بالإقلال من الدهون في السحور، وتفضل المشويات على المقليات. ويجب عدم نسيان الدواء إذا كان الإنسان قادرًا على الصيام ولكنه يتلقى الأدوية، وينصح بشدة باستعمال السواك أو الفرشاة لتنظيف الأسنان قبل النوم، فهذه سنة محببة، ولها فوائد صحية كثيرة ومؤكدة بالدراسات.
كيف نعد أطفالنا للصيام ؟
الطفل ينمو ويترعرع وسيأتي يوم يصبح فيه الصيام فريضة عليه، والصوم جهد ومشقة ويتطلب الصبر وقوة الإرادة، ويجب أن لا ندع هذه الفريضة تباغت أطفالنا دون استعداد لها بل يجب أن ندعهم يترقبونها بشـوق وشغف، وعلينا أن نصيّر رمضان عرسًا ينتظره أبناؤنا.
البيت مدرسة كبرى والطفل يرى ويسمع ويقلد، يجب أن تظهر في البيت معالم الحفاوة برمضان، ويجب أن يرى الطفل سعادة ذويه بقدوم الشهر المبارك، يجب ألا يرانا نتأفف من الجوع، فهو رغم أنه صغير ولكنه خبير بالمشاعر، ويجب ألا نفهمه أن الأمر جوع وعطش بل سرور وحبور وفوق ذلك ثواب عظيم.
قد لا يستطيع الطفل الصيام هذا العام ولا عيب في ذلك ولا إثم، فالصيام يرتبط بمقدرة الصغير المتزايدة، ولذلك لا مانع إن دربناه قبل أن يصبح في سن التكليف على الصيام المتدرج كأن يصوم للظهر ثم للعصر، وهكذا درجات، لا حرج إن كان بمقدوره تحمل بعض الجوع مع تناول بعض الماء، إن هذا تدريب وتمهيد حتى لا نفاجئه يومًا بقولنا حان وقت الصيام.
عندما يقوى الصغير على الصيام دعه آنئذ يشعر بلذة الطعام والشراب بعد طول صبر وتحمل، دعه يرى أن وقت الإفطار فرصة كبرى ينال فيها من السعادة اليومية الكثير، ويجب أن نعلم أننا نكون قدوة وقت الإفطار والسحور وحتى النوم، وعاداتنا ستنعكس على أطفالنا سلبًا أو إيجابًا بلا شك.
إن الطفل يحب الجائزة والهدية، وعلينا ألا ننسى ذلك، وكذلك علينا أن نعلمه أن ديننا يسر ورحمة، والله سبحانه وتعالى يسمح للصغير الذي لم يدخل سن التكليف بأن لا يصوم، وبعد رمضان لندع الطفل يستمتع بعيد سعيد يمرح فيه ويلعب.