تشتهر العاصمة التونسية باحتضانها مقاهي تاريخية وثقافية ضمت خيرة ما أنتجه المجتمع التونسي من عمالقة الشعر والصحافة ورجال القانون والسياسة والموسيقى والمسرح، إذا شاء لك القدر أن تزور هذه المقاهي فسوف تشم عند الاقتراب منها “عبق التاريخ” وتتذكر روادها العظام شيخ الأدباء العربي الكبادي والشاعر مصطفى آغة وعلى الدوعاجي وعلي العياري وعبدالحميد طقطق والصادق دكوش ومحمد صالح المهيدي والبشير الفورتي وبيرم التونسي والقاص علي الدوعاجي والصحفي الهادي العبيدي·
إنهم نخبة تونسية ذات تكوين ثقافي غربي وروح وطنية·· ولا ننكر أن الخيارات السياسية ساهمت في تكييف النشاط الأدبي وهو نشاط تم ممارسته على شكل مسامرات·
ومن المقاهي الأدبيّة التونسيّة التاريخيّة نذكر مقهى البانكة العريانة ومقهى تحت الدربوز (مقهى تحت الدربوز أزيل الآن تماما) ومقهى العياري الذي كان يرأسه شيخ الأدباء العربي الكبادي (1880 – 1961) ومقهى الكرم للشاعر مصطفى آغة المتوفى عام1946·
وقد مثل كل من مقهى العياري ومقهى تحت الدربوز مساحة للكثير من أدباء تونس في ذلك الوقت ونذكر منهم علي الدوعاجي وعلي العياري وعبد الحميد طقطق والصادق دكوش ومحمد صالح المهيدي والبشير الفورتي، ومن مميزات مقهى العياري ومقهى الدربوز هجرهما للقضايا وللمواضيع الملتزمة وقد علّق محمد فريد غازي على الشيخ العربي الكبادي الذي كان يرأس الجلسات بأنّه لم يعرف الأزمة كما عرفها أبو القاسم الشابي أو الحداد، ذلك أنّ فطريّته الأدبيّة جعلته عقلا وروحا وإحساسا لا يأبه كثيرا بالواقع وإن هو تأثر به·
أيضا وجدت مقاه ثقافية أخرى منها نادي وليام مرسي و منتدى خميس القبلاوي وبكار الصحابي والخلدونية والرشيدية ومنتدى مجلّة الفكر، علماً بأن جمعية قدماء الصادقيّة كانت تتمتّع بدور خاص يتمثّل في ورغم تعدّد المقاهي الثقافيّة في تونس وتفاوت أدوارها وآثارها، فإنّ المقهى الثقافي الأكثر شهرة في تاريخ تونس الحديث هو مقهى جماعة تحت السور التي من أقطابها محمود بيرم التونسي (1893-1961) والقاص علي الدوعاجي (1909-1949) والصحفي المرحوم الهادي العبيدي الذي كان من نجوم الصحافة التونسيّة لاسيما وأنّه عمل رئيس تحرير جريدة الصباح التونسيّة، ومحمد العريبي (1915-1946) ومحمد بن فضيلة (1911-1957) وعلي الجندوبي (1909-1966) ومصطفى خريف (1909-1967) ومحمد صالح المهيدي (1902-1969) وعبد العزيز العروي (أشهر حكواتي في تونس 1898- 1971) لقد ارتبط تاريخ هذه الجماعة بمقهى تحت السور الذي توقف عنده الكاتب بفضاء متواضع سيكون له على تواضعه شأن كبير في تاريخ الأدب التونسي وهو يتمثل في مقهى شعبي كان يوجد في ربض من أقدم الأرباض التونسية هو باب سويقة ويعرف أيضا بمقهى سيدانة أو مقهى خالي علي كما ارتبط بفترة تاريخية ثرية تشمل المدة الفاصلة بين عامي1929 و1943·
ويرى الباحث رشيد الذوادي أنّ هذا المقهى اكتسب شهرة واسعة، لأنّه كان يضمّ سرة القوم من فنانين وممثلين وشعراء وقصاصين ورسامين وغيرهم·· وفيه تقع السجالات والمناقشات والأسمار الأدبيّة، هذا وتعتبر مجالس تحت السور التي انعقدت في الثلاثينيات أهم المجالس وأخصبها·
تحت السور
ويضيف الباحث الذوادي في كتابه جماعة ” تحت السور” أن رواد هذه المقهى عموما من الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تألفت من أبناء أصحاب المهن والحرف وصغار الموظفين وكذلك من المعلمين والمدرسين سواء كانوا من تونس العاصمة أو من الآفاق كما يقال سابقا في عهد الاستعمار الفرنسي، كان الأدب ينتدب رجاله من هذه الطبقة التي اندمجت يومئذ في أغلب طبقات الشعب التونسي تبث فيه وعي الحركة التحريرية·
كان رواد هذا المقهى من هؤلاء الرجال الذين يطمحون إلى التعليم العصري والتثقيف الحديث لكن الجامع الأعظم لم يكن في استطاعته أن يفي بحاجتهم الملحّة إلى ذلك فنشز بعضهم عنه وانقطع عن الدراسة بعضهم الآخر كما لم يكن في وسع هؤلاء الرواد أيام شبابهم أن يواصلوا تعليمهم في المدرسة الصادقية لقلة ذات اليد فانكبوا يثقفون أنفسهم بصورة عصامية: بالمطالعة، بالتأمل، بالاحتكاك الاجتماعي المستمر، بالتتلمذ لأدباء سبقوهم في الميدان، وبالدخول في صلب الحركة الوطنية التحريرية والذود عنها على أعمدة الصحف أو على أعمدة المسارح·
ويرصد المسرحي المعروف عز الدين المدني في مقدّمة كتاب “تحت السور” للقاص الراحل علي الدوعاجي مميزات جماعة تحت السور مبرزاً أن وضعهم كان أو رأوه هم بائسا خاسرا منحدرا ومطامحهم معطلة ومعرقلة·· فقد نعتوا أنفسهم بالهامشيين والشواذ والبوهيميين الذين لا ترجى منهم فائدة ولا دور تاريخي·· إنّما كانوا يتبجحون بهذه النعوت ويرضون بها كل الرضى·· كانوا أيضا في أغلبهم عزابا·· فلا شغل يشغل بالهم·· في حل من كل علاقة عائلية مما أدّى بهم مع طول المدة إلى الانحراف·· وإلى التطفل على موائد الأغنياء وإلى التلون السياسي حسب الصدف، وقد عرّف علي الدوعاجي مقهى جماعة تحت السور بأنّه أصبح برناص الشمال الإفريقي حتى بلغت شهرته عماد الدين في مصر والحي اللاتيني في باريس وحتى أمسى محط رجال أدباء المشرق والمغرب ففيه استقبلنا الأستاذ محمود بيرم والأساتذة آستر ومارسيل سوفاج وقويد ومدينا وغيرهم·
وقد لعبت جماعة مقهى ” تحت السور” دوراً ثقافياً وإبداعياً مهماً ساهمت خلاله في تطوير الأغنية التونسيّة حيث (استفاد مطرب تونس الراحل الهادي الجويني من ابداعات جماعة تحت السور) كلمة ولحناً· إضافة إلى قيامهم بخلق صحافة هزلية نقدية كجريدة “السرور” التي صدر عددها الأول عام 1963 كما تطور فن الكاريكاتير على يد هذه الجماعة وتحديدا الفنان عمر الغرايري·
ولعلّ الفنان بيرم التونسي هو أكثر جماعة تحت السور شهرة عربيّة وقد اختلط بهذه الجماعة عند قدومه إلى تونس وكان قد بلغ آنذاك الأربعين عاما وتتمثل إضافته الحقيقية لجماعة تحت السور في توجيه الجماعة في اتجاه هزلي شمل الزجل والقصّة دون أن ننسى كتابته المنتظمة في جريدة السرور التي تعتبر الجريدة المركزيّة للجماعة، كما أنّ الصحفي المرحوم الهادي العبيدي أحد مؤسسي مقهى تحت السور ساهم بخبرته الصحافية في ظهور صحف السرور والسردوك والشباب مكرسا بدوره خيار النقد الساخر·
ومن الأدوار الأخرى لهذه الجماعة نذكر مقاومتها للمستعمر بطريقتها الخاصّة إذ قاومت ابتذال المستعمر للغة العربيّة وتهميشه لها في التعليم وذلك من خلال تأليف اشعار وزجل وتشجيع المطربين على أداء تلك الكلمات وأيضا ساهمت في النهوض بالمسرح وتكريس اللغة العربيّة في شتى قنوات الاتصال·أمّا الآن فقد تلاشى مقهى جماعة تحت السور وبنيت مكانه عمارة حديثة، فتحوّل المقهى إلى ذكرى وتحولت إسهامات جماعة تحت السور إلى تراث ثقافي·
ويمكن القول إن المقاهي الثقافية بالشكل الذي كانت عليه قد اضمحلت وعوضتها وزارة الثقافة بفضاءات ثقافية إلى جانب بروز ظاهرة خلال عقد التسعينات تمثلت في فتح مجموعة من الديار هي دار الكاتب ودار الصحافي ودار المسرحي، ولكنها فضاءات للتلاقي وللترويح عن النفس أكثر منها فضاءات لتلاحق الأفكار ونشوء مشروعات إبداعية·