في عالم الإسلام اليوم، وكما لاحظ جاك بيرك، ينقسم كثيرٌ من المثقَّفين والمناضلين بين «أنصار المصير بلا أصيل، وأنصار الأصيل بلا مصير»! ولعلَّ ذلك هو ما دفع محمَّد إقبال (1294- 1357هـ/ 1877- 1938م) لأنْ يقول – ذات مرَّةٍ-: «إنَّ المثاليةَ والواقعَ في الإسْلام ليسا قوَّتيْن مُتنافرتيْن لا يمكن التَّوفيق بينهما؛ لأنَّ حياة المَثَل الأعْلى لا تتمثَّل في انفصامٍ كاملٍ عن الواقع الذي يَنْزِعُ نحْو تحْطيم الوحْدة العُضْويَّة للحياة وتشْتِيتِها في صُورة مُواجهاتٍ مُؤلمة، ولكنَّها تتمثَّل في جَهْدِ المَثَل الأعْلى [ذاتِه] الدَّائب للاسْتِئْثار بالواقع قَصْد احْتوائِه- إنْ أمْكَنَ–، واسْتيعابِه، وتحْويلِه في ذاتِه، وإنارَتِه في مجْمُوعِه». فإذا كانت عملية «الوحي/التَّنزيل» تم نقلُها من السَّماء عمودياً؛ فإنَّها كانت تسْتهدف الإنسان بالأساس؛ وهو ما عبَّر عنه النَّصُّ القرآنيُّ الكريم حين قال: ﴿قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً﴾.[الإسراء: 95] وهذا الأمر يفرض على الإسلام في كلِّ عصْر أنْ يأخذ في الاعتبار المراحل المتتابعة من الانثروبولوجيا الإنسانية؛ بخاصَّة تلك التي وسمتْها– وبعُمق– الثورة التكنولوجية وبحث الآثار المترتِّبة عليها اجتماعياً، وليس فقط على المستوى العملي، وهو ما فهمه هيدغر تماماً؛ وإنَّما أيضاً على المستوى الثقافيّ، وعلى مستوى المواقف والعقليات؛ بما فيها مستوى النظر الفكريّ المجرد.
إزاء مُشكلة كهذه، ثمَّة موقفان منطقيان ممكنان أمام أي نظام يريد، إن لم يكن يتوجب عليه، أن يُجدِّد ذاته إزاء تقلُّبات الحداثة وما بعد الحداثة: الأول: هو أن يتلاءم مع حركة العالَم مع الاحتفاظ ببعض الضمانات الأساسية التي تكون بمثابة علامات على الطَّريق؛ أي بعدد معين من أنماط السُّلوك أو الأدوار الاجتماعية التي تُعدُّ ضرورية لدوام تأكيد الذَّاتية. الموقف الثاني: هو أن يَدمُجَ في ذاته حركةَ العالم، أو يَدمُجَها في نظامه الخاص؛ أي أنْ يصوغ هذا النِّظام في قالب حداثتِه؛ بخاصة بعد أن برهنت البنيويَّة Structuralism على أنَّ هُويَّة أي مجموعة بشرية تبقى في مجملها غير مرهونة بهُويَّة مُحتوياتها، ولكن بطريقة تركيبها، وأنَّ بإمكان أي نظام ديني أو ثقافي أن يحتفظ بهُويته الخاصّة، حتَّى لو تغيَّرت مُحتوياته.
كلُّ هذا يجرُّنا إلى التَّساؤل الشَّائك: كيف عالج الإسلامُ الكلاسيكيُ، في العالم الإسلاميّ المعاصر، مسألة التَّحديث؟ وما موقع جهود الإصلاح والتَّجديد التي قام بها رُوَّاد النَّهضة من منظومة الإصلاح الديني؛ وفي القلب منها إصلاح المؤسسات الدينية؟! وما طبيعة الرهانات المعرفية والسياسية التي عولوا عليها في إصلاح هذا الجانب؟ ولماذا تهاوت مشاريع الإصلاح والتجديد على مدى قرنين من الزمان وأكثر؟ وهل ثمة إمكانية للخروج من جدليات الشدّ والجذب بين ما هو ديني وما هو سياسي في إطار الحديث عن إصلاح مؤسسات المجال الديني؟!
أسئلة كثيرة تفتح أبواب النقاش على مصراعيه، ولا نود بطبيعة الحال أن نقع في فخ إغراءاتها التي لا تنتهي؛ بخاصة ونحن نريد لهذه الدراسة أن تكون مكثَّفة ومباشرة، على قدر الطاقة الإنسانية.
في البداية يمكننا القول إن إصلاح المجال الديني، وما شابهه من مصطلحات، يعد مفهوماً إشكالياً بحد ذاته، ليس لأنه عتبة قلقة باعثة على استعمال وتداول مفاهيم ملتبسة وغامضة وأطروحات لها علاقة بمركزيات التراث والخطاب الديني والخطاب الثقافي والخطاب السياسي والمنظور الفقهي والاجتهادي، فيما يؤكد على حسن الفواز؛ بقدر ما بات هذا المفهوم أكثر تعقيداً وخطورة في التعاطي العنفي مع مفاهيم الدولة الحديثة والمجتمع الحديث، وعلاقتهما المشوشة بالصورة النكوصية الراكزة في التاريخ والنص الديني، وبطبيعة الاجتهادات التي أخذت تطرحها جماعات الإسلام السياسي، أو جماعات التطرف والغلو… وصولاً إلى إباحة العنف ضد المجتمعات الغربية من خلال تأويل فقهي لهذه العلاقة.
لقد تنازعت هذا المفهوم، في الأزمنة الحديثة، في ما يتعلق باتجاهات النقاش في شأن إصلاح مؤسسات المجال الديني، تيارات ثلاثة كبرى وسمت، وشكّلت، طابع الثقافة العربية الإسلامية طيلة القرن الماضي، ألا وهي: تيار الأصالة، وتيار المعاصرة، وتيار التوفيق بينهما. والحال أنه كان لتجديد الفكر الديني في هذا العصر اتجاهان رئيسان: أحدهما يعارض الثقافة الغربية الحديثة برمّتها؛ لأنه يراها غير منسجمة مع الإسلام: دينا، وثقافة، عقيدة وشريعة، ويمثّل هذا الموقف اتجاه «الإسلام الأصوليّ» المتشدّد الذي يشدّد على ضرورة التمسُّك بظواهر الإسلام وليس على روحه ومضمونه وجوهره. ثانيهما الموقف المعبّر عن «الإسلام الحداثي» الذي يؤكِّد على روح الرسالة الإسلامية، ويرى إمكان التجديد في أحكام الفقه والشريعة. وفي الواقع فإنَّ ثمة موقفاً ثالثاً يتوسّط – في الحقيقة- بين هذين الاتجاهين، ويتموضع بينهما، فلا يرى في الحضارة الغربية قيماً تتعارض مع القيم الدِّينية والرُّوحية، لكنه لا يدعو للانصهار والاندماج الكامل في المنظومة الغربية. ولكلٍّ من هذه التَّيارات الثلاثة رؤيته الخاصَّة في ما يتعلق بإصلاح المجال الدِّيني: قبولاً ورفضاً، تعاطياً وتعالياً، إثباتاً ونفياً… إلخ. إذ يعدُّ التجديد الدِّيني أحد المفاهيم التي تجاذبتها شتَّى التيارات والمذاهب الفكرية، ونظراً للخصوصية التي يتميز بها كلُّ نسق معرفي عن الآخر؛ فإنَّ العمل التَّجديدي عادة ما يكون مختلفاً: منطلقاً، وغاية.
وبشكل عام يمكن القول إننا نقصد بالمجال، أو الحقل، الديني: مُجمل الرُّؤى والأفكار، والأنشطة والممارسات، وكذلك الهيئات والمؤسَّسات، التي تنتمي إلى «الدّين» مُباشرة: نشأةً ومصدراً، سيرورةً ومآلاً، وتؤثِّر بشكل عام في مُجريات الحياة السّياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، للأفراد والجماعات على حد سواء؛ ليس فقط على مستوى الحياة الدُّنيا؛ وإنّما أيضاً في ما يتعلّق بصياغة الرُّؤى والتَّصورات الميتافيزيقية الخاصّة بالعالَم الآخر.
وبالتالي؛ فإنَّ مفهوم «إصلاح المجال الدِّيني» يشمل ضرورة كلّاً من: الجوانب الفكرية والثقافية، والجوانب السُّلوكية والممارسات التعبُّدية [التَّدين]، وكذلك الجوانب المؤسَّساتية وما يرتبط بها من وضعية «الرُّموز الدِّينية» في المجال العام، والجوانب المتعلقة أيضاً بمواقف «المجتمع الدّيني» من القضايا العامَّة. فالخطاب الديني المعبر عن هذا الاتجاه يتضمّن شبكة من المجالات: التعليمية، والدّعوية، والإعلامية، وهذا الخطاب الذي تتعالى الصيحات بضرورة تجديده يتشابك في مفاصل الحياة بحيث يتعذّر فصله عن مناحيها المختلفة.
والواقع أنَّ محاولات تجديد وإصلاح مؤسَّسات المجال الديني في شكل خاص قوبلت بالعديد من صيحات الرفض والتعطيل لمساراتها من جانب القوى المحافظة في المؤسّسات الدّينية التّقليدية؛ بخاصة الأزهر والقيروان والزيتونة، كما أنَّ التذرُّع بضرورة اقتصار النّقد على رجال/ رموز المؤسَّسات الدّينية من جانب البعض أفضى في نهاية الأمر إلى تعطيل النقد جملة وتفصيلاً؛ فضلاً عن حاجة المؤسَّسات الدّينية إلى خبرات ورؤى فكرية مختلفة من خارج «الحقل الدّيني».
وبحسب العفيف الأخضر؛ فإنَّ الإسلام المعاصر لم يرفع حتَّى الآن تحدَّي عوائقه الثلاثة التي شخّصها إرنست رينان في القرن التاسع عشر، وهي: احتقار العلم الوضعي، ورفض البحث العقلاني في نصوصه بما هي كلام الله المُنزّه عن المساءلة العلمية، وفي رموزه بما هم فوق البحث والمساءلة، وأخيراً الخلط بين الروحي والزمني أو المقدس والمدنس. وهي عوائق دينية وذهنية ونفسية تحالفت بحسب كثيرين على كبت الإبداع الدّيني والسّياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي والفني.
من جهة أخرى، يمكننا أن نقف على مجموعة من النُّصوص التي توضّح، بشكل ما، طبيعة الإصلاح أو التّجديد في فهم الدّين، ومسؤولية هذا الصّنف أو ذاك عن التّجديد. وأول ما يقابلنا في هذا الإطار قوله تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.[التوبة: 122] يقول محمَّد رشيد رضا في تفسيره الآية: «هذه الآية من تتمَّة أحكام الجهاد بالقتال، مع زيادة حكم طلب العلم والتفقُّه في الدّين؛ وهو آلة الجهاد بالحجَّة والبُرهان، الذي عليه مدار الدَّعوة إلى الإيمان، وإقامة دعائم الإسلام … لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ؛ أي ليتأتّى لهم التَّفقُّه في الدِّين بأنْ يتكلَّف الباقون في المدينة الفقاهة في الدّين بما يتجدَّد نزوله على الرَّسول ﷺ من الآيات، وما يجري عليه ﷺ من بيانها بالقول والعمل، فيُعْرف الحكم مع حكمته، ويُفصَّل العلم المجمل بالعمل به». ثم يقول بعد ذلك: «والآية تدلُّ على وجوب تعميم العلم والتَّفقُّه في الدّين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه النَّاس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هُداةً لغيرهم، وأنَّ المتخصّصين لهذا التَّفقُّه بهذه النّية، لا يقلُّون في الدَّرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنَّفس لإعلاء كلمة الله والدّفاع عن الملَّة والأمَّة؛ بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدّفاع فرضاً عينياً… وما قاله بعضُ الأصوليين من دلالة الآية على الاحتجاج بخبر الواحد متكلف بعيد عن معنى النظم الكريم، ومبنيٌّ على أن لفظ طائفة يُطلق على الواحد كما قيل، وهو باطل».
وفي الحديث الشَّريف: «إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجدِّدُ لها دينَها». وقد قيل في شرح هذا الحديث: إنَّ المراد من الأمَّة فيه: أُمَّة الإجابة؛ وهم المسلمون. ويجوزُ أنَّ يُراد [بها] أمَّة الدَّعوة، وإرادةُ هذا ظاهِرةٌ على الأساس الذي يُفْهَمُ منه التَّجديد في الإسلام؛ لأنَّه يراد منه: النُّهوض الدّيني والمدني، وهو يتعدَّى المسلمين إلى مَنْ يُعاصرهم؛ كما في قيام النَّهضة الأوربية بتأثير النَّهضة الإسلامية.
وتبعاً للفهم العام لمضمون هذا الحديث، ارتهنتْ عملية التَّجديد في فهْم الدّين – في ما يتعلق بالمستوى الإجرائي- بفرد يبعثه الله على رأس كلِّ مئة عام، وتنازع العلماءُ– في ما بينهم– حول تحديد هُويَّة المجدّدين في القرون الغابرة، بل اختلفوا في تحديد المقصود بجملة: «رأْس كلّ مئة سنة»؛ هل المقصود بها: أوّل السَّنَة، أم آخرها؟ فقال قوم: بأنَّ المقصود بها آخرها «وقد اعتُرض على هذا بأنَّ رأس السَّنَة– من حيث اللغة– أوّلها لا آخرها. وأُجيبَ بأنَّه جاء في اللغة: رأسُ الشَّيء؛ بمعْنى آخره. قال في تاج العروس: رأسُ الشَّيء طرفُه، وقيل آخره. وقيل: إنَّ البعْث– وهو الإرسال– إنَّما يكون على رأس القرن بمعنى أوله. واختُلف أيضاً: هل مَنْ يُبعَث في المئة يكونُ واحداً أو أكثر؟ فقيل: إنَّه لا يكون إلا واحداً؛ لأنَّه جاء في بعض روايات الحديث التَّصريح بأنَّ اللَّه يبعث على رأس كلِّ مئةٍ رجُلاً [مما يستثني الكثرة، والمرأة]، وقيل: إنَّه قد يكون أكثر من واحد؛ لأنَّ لفظ «مَنْ» يُطلق على الواحد وغيره، وقد اختار هذا ابنُ حجر؛ لأنَّ اجتماع الصّفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أنَّ جميع خصال الخير كلّها [تجتمع] في شخص واحد».
وفي الأخير، لقد أدَّى هذا الفهم – إضافة إلى غلق باب الاجتهاد– إلى تكلُّس الإصلاح والتَّجديد، وارتهانه بفرد واحد يكون بمثابة «المُخلِّص»، «المُبْتعَثْ» من قِبَل السَّماء! والواقع أنَّ التَّجديد في الدُّنيا والدِّين إنَّما هو عملية «تراكميَّة» من جهة، يبني فيها اللاحق على السَّابق، كما أنه مهمَّة شاقة ومتجدّدة من جهة أخرى، بحيث يصعُب على شخص واحد– أو حتَّى جماعة/ فرقة/ طائفة/ مؤسَّسة واحدة– أنْ تنهض بأعبائها. وفي الأحوال كلّها؛ فإنَّ ألفاظاً من مثل: الإصلاح، والنُّهوض، والتَّجديد لا تعبِّر– في رأي شارل سان برو– «عن ثورةٍ أو تغييرٍ؛ بل على النَّقيض تعبِّر عن بذْل الجهْد من أجل الاستمرار مُنفصِلاً عن العيوب، والجمُود، والتَّفسيرات الخاطئة. فلا يعني التُّراث التَّحجُّر كما لا يعني التقدُّمُ الحداثةَ، ولا يُعبِّر التُّراثُ عن الجمود.