لأجواء رمضان طعم خاص وطقوس مميزة يمكن لمسها في بلد يبدّل جلده سنوياً في هذا الشهر الفضيل. فتزخر شوارعه وأسواقه بالروّاد ليلاً، وتخلو من المارة صباحاً على نحو يدهش الزائر. دهشةً قد تزول إذا علمنا أن الدوام الرسمي الذي يبدأ عند العاشرة صباحاً، وأحياناً عند الحادية عشرة قبل الظهر، إنما هو استجابة لتقاليد اجتماعية حميمية دافئة، لا يستغني عنها اليمنيون ببساطة. فتراهم يخرجون بكثافة ليلاً، حتى قبل حلول الشهر لشراء حاجياتهم الرمضانية من الأسواق والمحال التجارية، أو استعداداً لمتطلبات عيد الفطر السعيد.
الطبيعة الجبلية في هذا البلد الذي يقع جنوب غرب شبه الجزيرة العربية تضيف إلى احتفالات ثبوت هلال رمضان بعداً “جبلياً” معهوداً لدى ثقافات أخرى في العالم، ألا وهو إشعال النار. فبعد أن يأخذ الأطفال والشباب على عاتقهم جمع الحطب ابتداء من مطلع شهر “شعبان“، وعقب ثبوت رؤية هلال الشهر الكريم والإعلان عنه مساءً، يتولّى الشباب إشعال قطع الحطب ابتهاجاً بالخبر السعيد، وتعاد الكرّة في آخر الشهر ابتهاجاً بدخول أول ايام عيد الفطر السعيد. حتى قيل “إن اليمن تغدو وكأنها منارة من نور”.
وعلى غير ما نشهده في باقي الدول الإسلامية، فإن تقاليد الإفطار في معظم المدن الرئيسية اليمنية هي طقوس خاصة حقاً، إذ يتحول المسجد قبيل أذان المغرب إلى ملتقى يجتمع فيه اليمنيون في حلقات ضمن أماكن مخصصة ومعدة سلفاً، ليفرشوا طعامهم، وليدعوا الزوّار والغرباء إلى مشاركتهم مائدتهم، وجبات لا بد أن تتكون من “الكبسة” و”السلتة” و”العصيدة” و”السوسي”، وهي أصناف الطعام المفضّلة لدى اليمنيين، فضلاً عن “الشفوت” المصنوع من رقائق خبز خاص ولبن، و”الشربة” المعدّة من القمح المجروش بعد خلطه بالحليب والسكر أو بمرق اللحم.
تقليد لا يقتصر على المدن، إذ تضيف له الأرياف تقليداً آخر، فهنا ترسل البيوت المجاورة للمسجد أطايب الطعام لتقديمها للغرباء والفقراء والمستورين، الذين ينتظرون صوت المدفع معلناً موعد الإفطار، ومطلقاً معه ابتهالات الصائمين ودعواتهم.
وإذا كان الآباء والشباب يحتشدون بعد صلاة التراويح في الكثير من الأماكن العامة والمنتديات، للعب الورق وأحجار الدومينو والشطرنج، والأطفال ينتشرون في الحارات لألعابهم الشعبية المفصّلة مثل “الحجنجلة”، و”الفتاتير”، و”سباق الغمياني”؛ فإن العادات الاجتماعية الخاصة باليمن تستمر بصيغة أخرى، أو بتوقيت مختلف. فيعقد اليمنيون مجالسهم كل ليلة بعد صلاة التراويح مع الأصدقاء في دواوين خاصة.
كما أن القات، تلك النبتة العجيبة التي يمارس اليمنيون مضغها في أيامهم العادية كعادة يومية، تتحول لطقس رمضاني فريد باليمن، فيجتمع في دواوينها ومجالسها الأدباء والمثقفون والسياسيون وعامة النّاس، ليتبادلوا الأحاديث المتنوعة في جلسة صفاء بعد يوم صيام شاق وطويل.
كما تقام جلسات أدبية وثقافية وشعرية في تلك المجالس ليكتسب رمضان ميزة أخرى إضافة لروحانيته التي يمارسها آخرون ينشدون الأناشيد الدينية معاً، ويتناوبون على تلاوة القرآن الكريم، فيتولّى أحدهم تلاوة “ثمن جزء”، فيما يصغي الباقون له، في جلسة تستمرّ نحو ساعة، يتناولون بعدها طعام السحور.
يأبى البلد الذي كان يسمّى يوماً “اليمن السعيد”، والذي أصرّ على الانضمام إلى مشوار الربيع العربي، إلا أن يمارس خصوصياته في الشهر الفضيل.