تعرضت الصناعة العراقية في قطاعيها العام والخاص لارتدادات كبيرة وتراجع خطير، نتيجة الانتكاسات المتعددة والحروب المتكررة والأوضاع المتردية التي خيمت على البلاد طوال اكثر من ربع قرن،عانى خلالها القطاع الصناعي مشكلات كثيرة، بفعل السياسات التعسفية وسوء الإدارة والتنظيم والتدبير
والاجراءات الخاطئة من قبل النظام السابق، كل ذلك أدي الى نتائج سلبية وتداعيات مختلفة منها، انهيار سعر العملة العراقية وزيادة التضخم وما لحق بمؤسسات الدولة وغيرها من مظاهر طبعت الحياة عموما، بالسكونية والموت، حتى توقفت المصانع والمعامل عن الإنتاج الى درجة الصفر في العام 2003، وفي السنوات اللاحقة حاولت الصناعة العراقية ان تستعيد بعضا من انفاسها وفي ظرف الأعوام الثلاثة الأخيرة حققت شيئا من الخطوات على طريق الانتاج، اذ بلغ معدله بحدود (20) الى (30) بالمائة، وهذا بطبيعته لا يشكل نسبة كبيرة في قياسات الطموح والمستوى المطلوب وصولا الى نسب عالية وانتاجية متقدمة ،وذلك باتباع آليات وبدائل من شأنها أن ترتقي بالواقع الصناعي المتدني ،وهذه الإجراءات باتاتي ثمارها بين عشية وضحاها، وأنما تنطوي على خطط ومعالجات ودراسات استراتيجية معمقة، من بينها دور الاستثمار في ذلك.
أذ يعد الاستثمار عموما احد اهم المقومات الأساسية للارتقاء بالعملية الانتمائية في بلد مثل العراق، عبر مختلف الأنشطة الاقتصادية، ومنها الصناعة والزراعة والمرافق الحيوية الأخري ومختلف القطاعات، وبغض النظر عن نوع الاستثمار وحجمه ومصادره، سواء أكان محليا ام عربيا ام اجنبيا، فانه يصب ،في كل الأحوال ،في صالح التنمية الشاملة، وكغيره من القطاعات المهمة التي هي بأمس الحاجة الى التفعيل والتنشيط وأعاده الحياة اليها والنهوض بادائها المناسب ،ياتي القطاع الصناعي من حيث الأهمية والأولوية بالمواقع المتقدمة كعصب اقتصادي ورافد كبير في التنمية ،لا يختلف عن الميادين الأخري الفاعلة واستحقاقه في البناء والتطوير ،وان أعادة التأهيل ضرورة لهذا المرفق الذي عانى في العراق من شلل كبير طال مجمل مفاصله ، وعاش تحت ظل قوانين جائرة حالت دون ملاحقته للتطورات التكنولوجية وعدم مواكبة للمستجدات التقنية في العالم الصناعي المتقدم ،ما تسبب ذلك في أغلاق الكثير من المشروعات الصناعية وتسريح وتشريد العاملين وتعرضهم للبطالة واسوا الظروف المعاشية الصعبة ومرافق ذلك من مظاهر كارثية ومأساوية للواقع الصناعي العراقي .
نظرة قاصرة
هناك من ينظر بعين الريبة والتشاؤم لجدوى الاستثمار وأهميته ويرى فيه انعكاسات سلبية على مستقبل الصناعة الوطنية ،سواء كان الاستثمار محليا أم أجنبيا، ويذهب بهم الاعتقاد الى ان ذلك ينطوي على استنزاف للإمكانات المادية والاستفادة الأكبر من طرف المستثمرين فقط واحتكار التكنولوجيا والاستحواذ الشامل على الثروة والتحكم بها على حساب المصالح الوطنية وبذلك يعد الاستثمار طريقا الى الخصخصة التي بدورها وبحسب هذه النظرة ،تخلق طبقة تتمتع بنفوذ اقتصادي يتحكم بمقدرات ومصائر قطاعات وشرائح اجتماعية كثيرة ،على العكس مما أثبتته الحقائق التاريخية والميدانية بضرورة دور القطاعات غير العامة ،واهمية الاعتدال والمشاركة بين العام والخاص او المنهج المختلط.
وعلى العموم تغفل هذه النظرة السالفة او تجهل حقيقة مفادها أن الاستثمار عاجلا ام اجلا ،سيعود بالنفع والفائدة للطرفين ،ضمن عقد زمني وشراكة ضامنة للحقوق ،بما في ذلك ماتؤديه من دور واضح في تأهيل وتطوير المشاريع والمعامل الصناعية الوطنية، بمختلف صنوفها والارتقاء بها الى مصاف المراكز الصناعية النتجة والمتطورة .
نوعان من الاستثمار
مما لاشك فيه ،ثمة نوعان من الاستثمار الصناعي ،منه ما يعتمد على المنشآت المقامة وأعاده تأهيلها وتشغيلها بوتائر متقدمة ،كما هو حاصل في عقد شراكات مع جهات عالمية في بلادنا مؤخرا مثل ،معمل الأسمنت والأسمدة العراقية وغيرها ،ومنه مايقام عبر الانشاء الجديد للمصانع والمعامل الذي من المؤمل ان يكون هذا النوع قائما في بلادنا خلال السنوات المقبلة.
ولأهمية الاستثمار عراقيا والحاجة الأكيدة اليه في قطاعات كالصناعة والزراعة والصحة والطاقة والاتصالات والمواصلات والتجارة والخدمات ومشاريع اخرى ،فقد بدا التوجه والدعوة ألية منذ اكثر من سنتين كأسلوب امثل لحقيق مكاسب اقتصادية، ألا انه مازال يصطدم بتحديات ومشكلات في مقدمتها الجانب الأمني والاستقرار السياسي
دلائل ورغبات
شهد هذا العام 2009 وما قبله حراكا جديا باتجاه الاستثمار بمظاهر متعددة، تمثل بوفود رسمية وحكومية وعقد مؤتمرات مع جهات وشركات عالمية وجولات ميدانية لمستثمرين عراقيين ورجال اعمال محلييـن، بالإضافة الى العديـد مـن الزيارات المتبادلة بين الوفـود التجارية العراقية والعربية والاجنبية للاعلان عن الرغبات الكبيرة في الاستثمار ، ومجمل ذلك يشير بشكل وآخر الى أهمية الأمر في هذه المرحلة المناسبة ، قياسا لاي وقت مضى من الفترات السابقة ، ومن ابرز هذه الأنشطة والفعاليات بهذا الخصوص ، هو ما شاركت به الحكومة العراقية ممثلة بالهيئة الوطنية للاستثمار في مؤتمر لندن وطرحت بحدود (500) مشروع استثماري أمام المستثمر الأجنبي والشركات الأوروبية ،في حقول مختلفة ،مثل السكن ومشاريع صناعية كالبتروكيمائيات والحديد والصلب وصناعة السيارات وفي الصناعات النفطية وسواها ،وكذلك مؤتمر الاستثمار العراقي الالماني الاول ومشاريع اعادة البناء في قطاعات مختلفة ، كما يسعى مستثمرون عراقيون الى الدخول بشراكات استثمارية مع الشركات الأوروبية لاكتساب خبرات فنية عالية المستوى ، بالاضافة الى نقل التكنولوجيا الى العراق وتدريب الايدي العاملة على آخر المهارات العلمية والفنية في المجال الصناعي ،كل ذلك يجعل الكثير ان ينظر بعين الاعتبار والتفاؤل لاستقطاب الاستثمارات التي حققت نجاحات ومكاسب ، كما هو الحال في كردستان العراق وما انعكس على مشاريعها الاستثمارية لتوافر بيئة امنية وقانونية، اذ اعطت التشريعات الخاصة بالاستثمار في هذا الاقليم دوافع تشجيعية ومحفزة للاقدام على الاستثمار ،حيث تتواجد نحو(650) شركة استثمارية ،مابين التجارية والصناعية والسياحية.
بين رؤيتين
مع اليقين باهمية الاستثمار نظريا وعمليا على المستوى الاقتصادي ،الا انه عندما يتعلق ذلك بالعراق ،فيرى البعض فيه امرا مخيبا للامال ،نتيجة عوائق ومثبطات تحول دون تحققه ، الا وهو الوضع الامني الذي يشكل ركيزة أساسية لنجاح اي مشروع اقتصادي وتقادم البنى التحتية التي تحطمت جراء العمليات العسكرية والسلب والنهب والإهمال، وان بيئة الصناعة العراقية تكون بذلك بيئة غير آمنة وطاردة للاستثمار وقد تترتب على ذلك نتائج سلبية كزيادة في حجم الاستيراد وخروج العملة الصعبة وازدياد حجم البطالة وهجرة الكفاءات والمهارات، وكذلك ثمة مشاكل تواجه الاستثمار الأوروبي فيما لو اتيح له العمل في العراق ،فانه سيلاقي المنافسة من قبل الشركات الاسيوية الرخيصة وهذه الاخيرة سيكون الإقبال على منتجاتها ناجحا وكبيرا لقلة كلفتها للمستهلك العراقي الذي لا يفكر بالنوعية بقدر ما يفكر في الحصول على البضاعة باقل سعر ممكن.
كما ان المسألة الكبرى حسب هذه الرؤية، اذ تقف عائقا امام اي استثمار ،هي سيطرة الدولة شبه التامة وعدم السعي لبناء بلد يملك اقتصادا مفتوحا ولايحدث هذا الا بتطوير النظام الاجتماعي وفي المقابل هناك من يرى في العراق، انه يعد حاليا اكبر مركز للاستثمار في الشرق الاوسط، فقد حصلت بعض الشركات الاجنبية مؤخرا على استثمارات صناعية واقتصادية في العراق ،وان هناك الكثير من الشركات الكبرى تسعى للحصول على اجازات استثمارية في شتى المناطق العراقية وان حالة الاستقرار الامني ستجعل الباب مفتوحا امام المزيد من اقبال الشركات الاستثمارية ، وبفضل المغريات التي يقدمها قانون الاستثمار لجذب رؤوس الاموال والشركات وكذلك توفر قاعدة بيانات وافية للمستثمر عن المشروع والارض والقيمة المادية.
وان الدلائل تشير الى افق جديد في الاستثمار ،حيث وقعت مذكرات تفاهم واجريت مراسلات بين العراق ودول كثيرة ،وعقدت شراكات استثمارية مع شركات عالمية ،كما هو الحال في استثمار مجمع المنشأة العامة للصناعات الكهربائية في ديالى من قبل شركات عربية ولمدة (15) عاما وان جميع المنشآت والمعامل المستحدثة داخل المجمع ستعود لوزارة الصناعة بعد نهاية المدة المذكورة، وهذا شاهد على سبيل المثال لاالحصر، بالاضافة الى عقود الاستثمار الاخرى ، كلها تشير في القابل من الايام، ان الصناعة العراقية ستشهد العديد من المستثمرين العرب والأجانب في مجالات وصناعات بتروكمياوية ونسيجية وصناعة الحديد ،وبعد توفير ضمانات امنية وتطمينات اكثر من ناحية الاستقرار للكثير من الدول الاوروبية ،كالمانيا وايطاليا وغيرها تبدأ استثمارها بشكل جدي في مجال الصناعات المختلفة ،ولعل ابرز المشاريع التي تنتظر المستثمرين، مشروع ميناء العراق الكبير ومطار الفرات الاوسط ومجمع البتروكيماويات في البصرة ومشاريع اخرى كثيرة في بلد مثل العراق كبلد يمتلك الغني بالموارد غير المستغلة اقتصاديا ،حتى الان ،كالغاز الطبيعي ومعدن الزئبق والسيلكون ،فضلا عن الزئبق الاحمر الذي يعد الاغلى ثمنا بين المعادن ،بالاضافة الى الفسفور والكبريت والنحاس ومعادن وموارد اخرى.