آل بختيشوع حملوا الطب اليوناني إلى بغداد

آل بختيشوع حملوا الطب اليوناني إلى بغداد
يوحنا بن بختيشوع

البختيشوعيون أشهر الأسر الطبية التي خدمت الخلفاء العباسيين، وكانوا أطباءهم زهاء ثلاثة قرون متوالية ابتداءً من خلافة أبي جعفر المنصور وانتهاءً بخلافة القائم بأمر الله (ث1030م). درسها دراسة وافية اعتماداً على المصادر الأصلية، الأستاذ العراقي الدكتور كمال السامرائي، والذي يخبرنا أن البختيشوعيون عاشوا أولاً في جنديسابور ثم في بغداد وسامراء، وهناك مؤرخون عاصروا هذه الأسرة وعرفوا أخبارها بالمشاهدة لا بالرواية، إلا أنهم مع الأسف حصروا ما كتبوه عنها في نطاق حياتها الخاصة وعلاقاتها بالحكام، كما لم يشر المؤرخون إلى أصل البختيشوعيين وأرومتهم الأولى، ويحتمل أن يكون جدهم الأول من نساطرة إحدى مدن سورية الشمالية. المؤرخون الذين ترجموا لآل بختيشوع هم: فيثون الترجمان، يوسف ابن ابراهيم المعروف بابن الراية، اسحاق ابن علي الزهاوي صاحب كتاب أدب الطيب، عبيدالله بن جبرائيل البختيشوعي صاحب كتاب مناقب الأطباء.

وعُرفت أسرة البختيشوعيين بشهرتها في الفلسفة والطب إلا أن الطب كان الغالب عليها وبقيت تمارسه بنشاط، وتواصلت بين أبناء الأسرة واحد عن واحد. وكانت اللغة الأم للأسرة هي السريانية، وعندما دخل المسلمون إلى جنديسابور سنة 638م، شاعت اللغة العربية، على أنهم كانوا على الغالب لا يتفاهمون في ما بينهم إلا باللغة السريانية، وباتوا يعرفون باسم السريانيين أكثر مما يعرفون باسم النسطوريين، ولم يتأثر البختيشوعيون على ما يبدو بالطب المحلي الفارسي أو الهندي إلا بقدر يسير في أسماء الأدوية النباتية التي كانت تنمو أصولها في أراضي فارس حصراً.

وكان الأطباء في مدرسة جنديسابور هم الأساتذة المتميزون في تعليم الطب، ولغة التعليم عندهم بالسريانية على الأكثر مع بعض التعابير اليونانية، وكانت غالبية كتبهم الأولى هي التي حملها إليهم السريان الاسكندرايثون من مجاميع مؤلفات «جالينوس» التى ترجمها «سرجيوس الراس عين (الراسعين)» إلى السريانية. وكان البختيشوعيون دون منازع، أول من حمل شعلة الطب اليوناني إلى بغداد ومن الأوائل الذين ترجموا الكتب اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية وألفوا في الطب بها، ومن بين هؤلاء الأطباء:

1- جورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع : أول من عرفه العرب من أطباء الأسرة، وأول من دخل منهم إلى بغداد، وأول من ترجم الكتب اليونانية الى العربية في العصر العباسي، وكان جورجيس يرأس بيمارستان جنديسابور حين وصلته دعوة من بغداد سنة 765م ليعالج الخليفة أبا جعفر المنصور، وكان يومئذ قد أسن وشاخ، فقبل الدعوة مكرهاً واسصطحب معه إلى بغداد من تلاميذه «سرجيس وابراهيم وعيسى» وكشف على الخليفة وجسّ نبضه وفحص بوله ونجح فى إبرائه من الآلام التي كان يشكو منها في معدته فكان، أن عين طبيباً خاصاً للخليفة.

وبقي جورجيس أربع سنوات في خدمة المنصور، كان في أثنائها يترجم بطلب منه كتب الطب والحكمة من اللغة اليونانية الى العربية، وتوفي عام 769م، وأعقب ولداً هو «بختيشوع بن جورجيس»، ومن مؤلفاته في الطب كتاب الديابيطس، كتاب الأخلاط، وكتاب كناشى، وصفه بالسريانية، وترجمه حنين بن إسحاق إلى العربية، وفسره وعلق عليه تلميذه أبو عيسى مهار، وفي هذا الكناش معلومات تطبيقية مهمة في قرح المعدة والأمعاء والدمامل، وقد صارت هذه المعلومات من مصادر الرازي في كتابه الحاوي في الطب.

2- بختيشوع بن جورجيس ولد وتعلم الطب على ابيه في جنديسابور، ولتفوّقه أنابه والده على إدارة البيمارستان مدة غيابة في بغداد لمعالجة الخليفة المنصور وفي عهد هارون الرشيد الذي حكم بعد أخيه موسى الهادي سنة 786، وكان هارون مصاباً – على ما يبدو – بالشقيقة (الصداع النصفي) ولم يفلح الأطباء في معالجته، فاستدعى له بختيشوع وهو الذي لا ترتاح له «الخيزران» أم الخليفة ولا طبيبها وطبيب البلاط «أبو قريش»، واستطاع أن يكسب ثقة الخليفة وصار طبيبه الخاص ورئيساً لأطباء بغداد بأسرهم وهو لقب جديد استحدثه هارون. ولبختيشوع كتاب الكناش المختصر، وفيه بحث في الأورام البلفمية والسل ومضاعفاته وذات الجنب.

وقد أخذ الرازي كثيراً من هذه المعلومات وضمنها كتابه الحاوي في الطب، وتوفي في بغداد نحو سنة 798م وأعقب ولداً هو جبرائيل بن بختيشوع الذي تعلّم الطب على يد أبيه وبرع فيه، حتى أن والده اعترف بتفوّقه عليه وأشركه في معالجة جعفر بن خالد بن برمك وزير هارون الرشيد، وعندما مرضت إحدى جواري الخليفة وطلب منها أن يفحصها، سأله هارون عما يعرفه عن الطب، فكان رده: أبرد الحر وأسخّن البارد وأرطب اليابس وأيبس الرطب مما في أعضاء البدن من اختلاف وانحراف عن الصحة.

فأعجب هارون برده واستطاع معالجة الجارية، فأكرمه الخليفة وأصبح طبيبه الخاص وفوّضه في تعليم الطب في البيمارستان ببغداد، وكان هارون بديناً ومفرطاً في الأكل وتناول الشراب وأيضاً مصاباً بالامتلاء الدموي، إلا أن طبيبه الخاص جبرائيل داواه طيلة خدمته له مدة 15عاماً، وكان جبرائيل يعير الفكر اليوناني في الطب اعتباراً خاصاً ويعمل به، وكان يطلب كتب اليونانيين في كل مكان، وهو أول من اكتشف كفاءة حسين بن إسحاق العبادي في ترجمة مؤلفاتهم للغتين العربية والسريانية، فترجم لجبرائيل بعض كتب جالينوس إلى السريانية، وقد دامت خدمة جبرائيل لهارون الرشيد زهاء 23 عاماً، وكان راتبه مئة ألف درهم في السنة. وبعد وفاة هارون، التحق جبرائيل بحاشية الخليفة الأمين مدة 5 سنين، ولما استقر الحكم للمأمون بعد مقتل أخيه الأمين سنة 813م، سخط على جبرائيل لأنه وقف مع أخيه أيام نزاعهما على الخلافة، وكاد يقضي عليه لولا شفاعة وزيره الفضل بن سهل.

ولجبرائيل من المؤلفات: رسالة إلى المأمون في المطعم والمشرب، رسالة في صناعة البخور، رسالة مختصرة في الطب، صفات طبية نافعة كتبها للمأمون.

ثم توالى الأطباء من أسرة آل بختيشوع : بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع ( ت869م) جبرائيل بن عبدالله بن بختيشوع (ت 1005)، عبدالله بن جبرائيل (ت1058)، يوحنا بن بختيشوع بن جبرائيل، بختيشوع بن يوحنا بن بختيشوع، وأخيراً علي بن ابراهيم بن بختيشوع الذي دخل مصر في سنة 1068م ومارس الطب فيها، ولم يكتب إلا في طب العيون، وله كتاب في طب العيون وأشكالها ومداواة عللها.