ليونار فوجيتا الياباني ابن مدرسة باريس

ليونار فوجيتا أحد أبرز أعمدة الفن التشكيلي في «مدرسة باريس»، يختلف عن زملائه بيكاسو وموديلياني وسوتين وزادكين وفان دونجين وباسان أنه الرائد الوحيد الياباني- الفرنسي (على غرار زاووكي الصيني الوحيد كمعلم « للتجريد الغنائي» بعد مدرسة باريس).

مولود في طوكيو عام ١٨٨٦ لعائلة أرستقراطية، والده كان طبيباً معروفاً هيأ لابنه فرصة متابعة دراسة التصوير في بوزار (معهد فنون) في طوكيو، اعتبر بعد تخرجه من أبرز المصورين المعاصرين في اليابان، لكنه فضل تحقيق حلمه باختراق أوساط عاصمة الفن التشكيلي باريس، وصلها وعمره 27 سنة، أي في العام ١٩١٣، قاصداً البحث عن محترفه في أحد أحياء حي الفنانين « مونبارناس» ، ثم وفي اليوم التالي قصد محترف بيكاسو وتعرف إليه وأسر قلبه العطر الآسيوي الذي تعبق به رسومه ولوحاته، حقق النجاح في باريس ممتداً في عروضه وشعبيته إلى ألمانيا، متوخيّاً دوماً الاختلاط الأرستقراطي في الطبقات الاجتماعية العليا، هو ما يفسر انهمار الطلبيات على بورتريهاته بالجملة، بما فيها من ذاكرة التقنية البوذية، حتى أصبح من أغنى فناني مونبارناس، توفي في باريس عام ١٩٦٨، معرضه الاستعادي الراهن في متحف مايول يعتبر تكريماً لذكرى وفاته الخمسين. لعبت دوراً رئيسياً في هذا التكريم مؤسسة فوجيتا التي تأسست عام ٢٠٠٩ محتفظة بموروث ما يقرب من ستمئة لوحة انتُخب أبرزها وأشدها أصالة وشهرة لا تتجاوز المئة لوحة في المعرض الذي افتُتح أخيراً. يقع سرّ أصالة فوجيتا الاجتياحية على رغم برود توليفه الأسلوبي (بين تراكم تقاليد طوكيو وباريس المتباعدتين) في تمايزه الأسلوبي واستقلاله الخيالي، وحتى في تمايز شخصيته القوية والجذابة وجلباب التونيك اليوناني الذي كان يتسكع به في الطرقات الساهرة. كما يقع سر جاذبية نسائه الشاحبات في تعددية زيجاته في أوروبا واليابان حتى بلغ عدد زوجاته خمساً، الأخيرة التي ظهرت متعددة الوجود في لوحاته كانت بالغة الحسن والأنوثة المشرقية- المغربية، يقال عن أسلوبه المستقى من التكعيبية الفرنسية والإستامب الياباني كبرزخ شمولي متوسط بأنه مثال على المواطن العالمي.

ثقافة
ليونار فوجيتا

 

كان أسلوب باسان من أقرب الزملاء إليه، ولكنّه كان متطرفاً أكثر منه في سيطرة ألوان الرماد والعاج الأطلس، أو بالأحرى سيطرة التخطيط (الرسم بالخط) على التأثيرات الصباغية والعجائن الملونة. هي التي طبعت «الوحشية» في ألوانه.

يحدد عنوان المعرض الفترة التي أخصب خلالها فن فوجيتا ما بين الحربين العالميتين والسنوات المجنونة ما بين تاريخ وصوله عام ١٩١٣ وحتى ١٩٣١. يتناقض جنونه الشخصي المحبّب مع بساطة فنه واختزاله للموضوعات والأداءات الخطية البليغة وفي الطلبيات كان يصوّر بصيغة مرموقة الرسوم التوضيحية للطباعات الجماهيرية حتى أصبح أسلوبه مدرسة خاصة ينخرط في قواعدها العديد من الرسامين.

ومهما يكن من أمر فإن المعرض يثبت استثنائية استقلاله الأسلوبي وتمايزه الغرافيكي والتشكيلي، لا يشبه معاصريه ولا يمكن أن نخلط نساءه وأطفاله أو مهرجيه أو مصارعيه أو حيواناته كلابه وقططه وبخاصة قطته التي ترافق كل تصاوير وجهه في المرآة (الأوتوبورتريه) مع أي من عوالم زملائه، تجتمع في لوحته رهافة الحساسية الشعرية اليابانية وعبثية الريادة في الفن المعاصر الفرنسي يستعيد العالم الأسطوري في الطبيعة الحيوانية الطاوية وعوالم المصارعة اليابانية الجيدو والإيكودو ورياضة اليوغا. ويتابع تدريباته على معلمي تاريخ الفن الأوروبي في متحف اللوفر، ويعرج على الحياة الصاخبة التي عبر منها هنري تولوز لوتريك مثل غانيات الطاحونة الحمراء في ملاهي البيغال في العاصمة.

لعلّ أبلغ موضوعاته التي خصّص لها العشرات من الرسوم واللوحات هي القطة رمز الحكمة والتأمل الطاوي أو الكونفوشيوسي حتى تبدو وكأنها رمز بوذي مسحور بالبعد الوجودي الروحي، يصوّرها بأداء الأحبار الصينية المختزلة للشكل القدسي كمن يقتنص جوهر المرئيات.

يكفّن عالمه اللغزي اللون الأبيض الموشح بحلم حميم بعيد المنال، مثله مثل مواقع طفولته المنسحبة خلف المحيطات لم يبق منها إلا ذاكرة ثقافة الإستامب، وتناسل عبقريات الطباعة على غرار هوكوساي وهيروشيج.

من الجدير بالذكر أن باريس عانقت في الفترة الأخيرة عدة معارض عن فنون الساموراي اليابانية، كان آخرها بعنوان «ديميو- فنون فرسان الحرب في اليابان» هو ما هيّأ ذوقياً لمعرض فوجيتا الراهن.