تنافسا في الشطرنج، فأحرز فوزاً لم يكن متوقّعاً، تباريا في الفضاء، فأحرز قصب السبق، تواجها في أوراق لعب البوكر، فكرّر انتصاره على البشر باختصار، في كثير من الحقول والساحات، «تواجه» الروبوت مع الإنسان، فانعقد الفوز للروبوت صنيع البشر المؤتمت، ويبدو أن معركة جديدة شرعت تذر قرونها بين الخصمين المتنافسين، أو ربما… المتكاملين ! إذ طالما كانت المهمات الاستكشافيّة محفوفة بالمخاطر. وفي الذاكرة أن مستكشفي جزر المحيط الهادئ أمضوا أسابيع طويلة في قواربهم بعيداً عن اليابسة، كما تحدّى مكتشفو القارة القطبية الجنوبيّة درجات الحرارة التي تتدنى تحت الصفر بكثير ووجبات الطعام الهزيلة، فيما جازف روّاد الفضاء بحياتهم داخل مركبات سريعة وقابلة للانفجار، وهو ما أكدته حوادث دامية كانفجار مكوك الفضاء «تشالنجر» والمركبة «كولومبيا» وغيرهما.
وفي ظلّ ضغط المياه الكبير في المحيطات، اختبر باحثون غواصّات من نوع جديد، كالمركبة «آلفين» التابعة لمعهد «وودز هول»، من أجل الحصول على مزيد من المعرفة عن نُظُم البيئة في أعماق المحيطات، ثم وصل الروبوت أخيراً، فتولى تلك المهمات نيابة عنهم، ما أدى إلى تجدّد المنافسة الخفيّة بين البشر والإنسان الآلي.
بحثاً عن التفوق
على رغم ظروف صعبة وقاسية للجسد البشري، تفوق البشر في غواصّات اكتشاف الأعماق، فكان أداؤهم أفضل من الروبوتات المتجوّلة في قاع البحر، إذ استطاع ربابنة الغوّاصات الاستكشافيّة النظر من النافذة، وتجنّب العوائق، واختيار العيّنات بدقة عالية، ورسم الطريق من أجل تفادي الخطر أو البحث عن أمكنة نائية. لم يدم ذلك التفوّق طويلاً، وبفضل كاميرات متطوّرة، وإضاءة قويّة، وأنظمة قيادة وتحكّم يعزّزها الكومبيوتر، باتت الغواصات الروبوتيّة تتساوى أداءً مع الغواصات التي يقودها ربّان بشري، وبأثر من ذلك التطوّر، بات عدد كبير من المؤسّسات ميّالاً إلى استخدام المركبات الروبوتيّة التي يجري تشغيلها عن بُعد، كتلك التي يصنعها معهد «وودز هول لعلوم المحيطات»، بهدف إنجاز مهما استكشافيّة في أعماق المحيطات. وتحظى تلك المركبات بميزات عدّة.
ولأن استمراريتها في العمل تعتمد على الكابلات، لا يواجه الروبوت الغوّاص قيوداً على ساعات الغوص، وهو من المعوّقات الأساسيّة للجسد البشري، حتى عندما يكون الاستكشاف بواسطة غواصات مزوّدة بالهواء ومحميّة جيّداً في المقابل، يجري تشغيل الغواصة «آلفين» التي يقودها بشر، بواسطة البطاريات، فتستطيع العمل مدة ثماني ساعات متواصلة في آن.
وتعتبر غواصات الاستكشاف الشبيهة بــ «آلفين»، خطيرة على البشر، كما تحدّ من قدرتهم على الاستكشاف، وكي لا تعلق المركبات، لا يُسمح لـ «آلفين» بالعمل في الكهوف البحرية، أو تحت الثلج، أو في محيط حطام السفن، أو بالقرب من البراكين تحت المياه، وأشار فيل فورت، المهندس الذي يقود الغواصة «آلفين»، إلى أنه حتى في ظلّ توافر احتياطي أوكسجين لمدة 72 ساعة، يمثّل توقف المركبة عن العمل مشكلة كبيرة، لأنّ المركبات الأخرى ربما تعجز عن إنقاذها. ولحسن الحظ، لم تتعرض الغوّاصة «آلفين» لحوادث كبرى لحد الآن.
ومع ذلك، رأى معهد «وودز هول» أنّ وجود البشر في قاع البحر يعتبر أمراً أساسيّاً لضمان تحديث الغواصة «آلفين» تقنيّاً، ولفت بيت غيرغيس، وهو مستخدم متمرس لغواصة «آلفين» وأستاذ في جامعة هارفرد، إلى أنه «لا شيء أجمل من رؤية البيئة مباشرة»، ووحدهم البشر يملكون التقنيّات البصريّة الضروريّة للعمل في الأعماق، وحسّاً راسخاً بالعلاقات المكانيّة، ما يسمح بالحصول على عينات أكثر دلالة على بيئة أعماق المحيطات.
وأخيراً، ربما تتمثّل الميّزة الاستراتيجيّة الكبرى للغواصات التي يقودها البشر في قوّة أدائها في استكشاف الأعماق، ومع اكتشاف قاع البحر، ومشاهدة العظمة الجيولوجية، واستكشاف الروعة البيولوجيّة لأحد المناطق الأشد نأياً عن عين البشر، ربما شعر الدارسون والغواصون المتمرسون بإلهام كبير عن ضرورة فهم تلك البيئة الفريدة، وبالتالي ضرورة حمايتها أيضاً.