طيفُ أبي العلاء

طيفُ أبي العلاء

يوم الاثنين الفائت أخذني هاجسي إلى سوق العبور لشراء سمك، الحقيقة أنه ليس هاجساً بل معرفة قديمة ببعض معلومات عن الأسماك التي تهاجر من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر في الفترة من أول نوفمبر حتى نهاية ديسمبر للتزاوج ووضع البيوض في المياه الدافئة نسبياً، من هذه الأنواع الشعور والمحسن (ابن عم الشعور، ينطق بكسر الميم) والصدف والسهلية والمياس… إلخ. المهم وصلت السوق في العاشرة صباحاً، ودخلت الهنجر الكبير، كان الحال نائماً والأسماك قليلة، ولما كان من عادتي أن أتفرج على السوق كله قبل الشراء مع تصنع اللامبالاة وعدم الرغبة في الشراء (قال يعني الولد مكار) المهم وقعت عيني على سمكتين من نوع فارس، وهو نوع يأتي إلى المياه العميقة للبحر المتاخم لمدينة القصير في موسم التزاوج، يصاد بالسنارة على عمق مئة قامة (200 متر) ومن أطيب الأسماك طعماً وندرة. نظرت إلى السمكتين، وجدت إحداهما تبلغ حجماً لم أره من قبل، وللتو وقعت في عشق محرّم سينتهي بأكل الحبيبة الغالية. سألتُ البائع متبالهاً: ما نوع هذه السمكة؟ ردّ: بَيَاض يا أستاذ.

من واقع الخبرة كنتُ أدرك أن معظم باعة السمك أصبحوا ممن لا علاقة لهم بالبحر أو السمك معاً، هم فقط مجرد بائعين. كانت السمكة تلمع من الطزاجة، تصنعتُ تحسسَ جسمها بأصبعي، قال لي البائع: لا تقلب يا أستاذ، وكيلك الله بدمها. كان محقاً في ذلك، فعلى جانبي خيشوميها تقطر دماء طازجة. قلتُ لنفسي: نخش على المساومة. ـ بكم؟ قال: ـ 35 جنيهاً الكيلو. لبستُ طاقية الفلاح الساذج الذي بهرته أضواء المدينة، وقلت له: ـ إهيه، 35 جنيهاً؟ 15 جنيهاً، ينفع معك؟ نظر إليَّ البائعُ متعجباً، وقفتُ في المساومة عند 20 جنيهاً، وهممتُ بتركه فلم يهتز، لكنه قال: ـ من الآخر 25 جنيهاً. ـ طيب، أوزن.

وزنَ، عشر كيلوات بالتمام والكمال. دفعتُ بها إلى صبي التنظيف، قلتُ له: ـ انزل بها فيليه. قصدتُ بذلك أن يسلخها وينزع منها العظم والشوك. وضعتها في شنط بلاستيكية عدة، وانصرفت، وعندما ركبت الباص أرخيت جسدي متنعماً بحلاوة الوجود، وقدرتُ أن شخصاً مثلي يمتلك سمكة من هذا النوع بهذا الحجم بذلك الثمن لا بد وأن يكون شخصاً سعيداً. قلتُ أهمس لنفسي: ـ الحياة جميلة، بل وطيبة. ثم استدركتُ وقلتُ: أحياناً؛ لأن طيف أبي العلاء المعري خايلَني وهو يقول: تقدرون فتسخر الأقدار. انقبض قلبي، فهششتُ طيفَ أبي العلاء، وأغمضتُ عيني أرتشف من حلاوة اللحظات.