لوحات الفنان صبري منصور عالم تسكنه الماورائيات

ماذا لو امتد التصوير المصري القديم حتى عصرنا الحاضر من دون انقطاع؟ لا شك حينها أنه كان سيتشبع بتأثيرات كل هذه الحقب والثقافات التي مرت على مصر والعالم، لكنه كان من المُرجح أيضاً أن يحتفظ بوشائج قوية مع هؤلاء المصورين العظام الذين زيّنوا المقابر والمعابد الفرعونية بالصور والكتابات. دائماً ما يتبادر أمامي هذا السؤال كلما تطلعتُ إلى أعمال الفنان المصري صبري منصور، مدفوعاً بذلك الخيط الخفي الذي يتسلل بين رسومه ممتداً وغائراً حتى يصل إلى تلك التصاوير التي تركها أسلافه على الجدران.

ولعل معرضه الجامع لنماذج مختلفة من تجربته الممتدة منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم؛ يمثل فرصة حقيقية للبحث حول هذه التجربة التصويرية المميزة لواحد من أهم المصورين المصريين المعاصرين.

مصورون كثر استلهموا تلك الرسوم الفرعونية، وحاولوا تتبع ذلك النسق القديم على نحو معاصر، غير أن ما فعله صبري منصور لم يكن من قبيل الاستلهام أو التأثر، هو حالة من الوعي لا تستلهم العناصر وحدها، بل تلتهم التاريخ والثقافة أيضاً، فتعيد تمثيلها من جديد، كأنه كان شاهد عيان على ما حدث، أو أن جيناته احتفظت بذلك الشعور المرهف لأسلافه من المصورين على مر العصور، فاستطاع بمهارة رتق ذلك القطع العميق من دون زيف.

كان الأمر أشبه بالقرار الذي اتخذه فور عودته من بعثته في أوروبا، تلك الرحلة التي حفزت وعيه ونبهته إلى ذلك الإرث الثقيل الذي يحمله، وأيقظت داخله كذلك روح الحماسة والتحدي. كان عليه البحث عن مشهد تصويري ينتمي إليه على المستوى الفردي ولا ينفصل كذلك عن تكوينه الثقافي؛ وهو تحد كبير في ظل هيمنة حضارية غربية ليس من السهل مقاومتها، استغرق صبري منصور في رحلة بحثه طويلاً حتى عثر على ضالته أخيراً.

لم يكن يريد اجترار أعمال من سبقوه، أو التعاطي مع إرثه الثقافي بنوع من التسطيح يغرق أعماله في تهويمات بصرية مشوهة، بل كان يسعى إلى أعمق نقطة يمكن الوصول إليها، إلى تلمس تلك الجذور الضاربة بقوة في المخزون البصري والثقافي المصري، هذه الصور المحملة بتراكمات السنين والحقب. وجد صبري منصور ضالته في القرية، المكان الذي لا يزال محتفظاً بوشائج من صلة مع كل هذه التراكمات. لذا فهو حين اتجه إلى صوغ علاقاته البصرية انطلاقاً من المكان لم يتجه نحو الصورة المباشرة له، هذه الصورة التي تقفز إلى المخيلة حين يتم ذكر القرية، بل صوب اهتمامه نحو ذلك المخزون الأسطوري المخفي خلف الجدران الطينية، إنها الخرافة التي تشكلت على مر الأزمنة لتمزج الحقب والعصور مع بعضها البعض.

لم تكن القرية تمثل لديه تلك الجذور أو الذكريات، بقدر ما كانت رمزاً وبوتقة نقية استطاعت عبر قرون أن تلخص حضارة هذه الأرض، وأن تمزج كل الثقافات العابرة في أتونها ومراجلها المتوهجة، هو عالم بلا حدود، ليست له نهاية من الرموز والأشكال، طبقات فوق بعضها من الصور، عالم تسكنه الجن والملائكة. كانت القرية تتجسد أمامه بنضارتها وعنفوانها البكر، كالأم والوطن والأرض، بل كانت تستنطق بتفاصيلها الغائمة في ذاكرته أسرار العالم بأسره.

كانت هناك إرهاصات قوية لذلك المنحى في تجربة صبري منصور منذ اختياره لمشروع تخرجه الملهم في الفنون الجميلة عن الزار، ذلك المشروع المشبع برائحة الأسطورة ونفحات الأسرار. الشخوص والعناصر التي امتلأت بها لوحة الزار تم استدعاؤها بعد ذلك لتشكل مسار التجربة الفنية لصبري منصور خلال السنوات الأولى من تجربته وحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي، اقتصرت المساحة في تلك الفترة على عدد محدود من العناصر والمفردات: وجوه، شخوص هائمة في صمت أسطوري، الخيول، الشجرة، كما شهدت تلك الفترة أيضاً ظهور القمر، لم يظهر القمر في شكل مفاجئ، فقد كان ظهوره ضرورياً ليكمل المشهد الليلي الغامض الذي خيم على تلك الأعمال.

في أعماله المبكرة كان ثمة بقايا من حرص على ما تحصل عليه من قواعد مدرسية أثناء دراسته الأكاديمية، من التزام بالنسب التشريحية للشخوص، والتجسيم، والإيهام بالبعد، وثمة ملامح مشتركة كانت تتكرر بين الحين والآخر، الوجوه الحادة الساهمة القريبة من التجهم، والأطراف الغليظة، والكتل اللونية التي يرسمها فوق هامات الأشخاص والتي تبدو كلفافة من القماش، والتدرج في رسم الظلال من المساحات القاتمة إلى أخرى ساطعة، والاقتصاد في إدخال الدرجات الساخنة. لم يستخدم صبري منصور في أعماله درجات اللون الدافئة إلا في ما ندر من الأعمال، فقد كان أميل إلى الرماديات والبنيات ودرجات الأزرق والأحمر الشائهة مع الأبيض بتحولاته، وهي ألوان تتماهى مع حالة الإضاءة الخافتة أو الشبه خافتة التي سيطرت على معظم أعماله خلال العقدين اللاحقين للتخرج.

ومن هذه الصياغات المدرسية للعناصر التي ميزت مشروعه عن الزار إلى البحث عميقاً حول مفهوم الحياة والموت. في أعماله الأولى برزت الشخوص في صدارة اللوحة قليلة العناصر، ومثل الضوء بطلاً رئيساً يتسلل خافتاً بين المساحات التي يخيم عليها الصمت، رجال ونساء يقفون في المواجهة كأنهم في حضرة المجهول، أو يتهيأون لمشهد تذكاري. كانت العلاقة بين المساحة والأجساد القوية للرجال والنساء، والمعالجة اللونية للمشهد تفرض سطوتها على المساحة. وانفتحت طاقة النور على مصراعيها في ما بعد، لتذوب العناصر البشرية في مشهدية أرحب في ما يشبه الاحتفاء بالمكان، تلاشت الملامح لتترك لنا براحاً للتأمل، جن وملائكة وأرواح هائمة، عوالم خفية تتلاقى معاً فوق مساحة اللوحة، بشر يسكنون البيوت وتسكنهم الأبدية.

هنا يتشكل نسق جديد وفصل مغاير لأسطورة صبري منصور التصويرية، تمتد الخيوط وتتلاقى مع ما أبدعه الأسلاف. وإن كانت القرية هي التي فجرت في داخله كل تلك الصور التي تتابعت بلا توقف في لوحاته، فقد انتقل من القرية إلى مسارات أخرى جديدة بنفس الروح، أنظر واقترب… فكأنما هي ترنيمة حزينة أو طقس بدائي يحتفي البشر خلاله بوجودهم العبثي، مواكب جنائزية وأعراس، كائنات محلقة وأحصنة مجنحة، كل ذلك يذوب في درجات من اللون كضوء القمر.

يشكل الضوء عنصراً رئيساً في اللوحات، وهو بطل المشهد في كثير من الأحيان، أجمل ما فيه خفاء مصدره، لا تلق بالاً لمصدر الضوء هنا، فهو ينبثق من العناصر. هكذا تتشكل مفردات صبري منصور على مساحة اللوحة، كأنها كائنات نورانية ذائبة في التكوين وسابحة في فضاء أسطوري، أو أنه يشكل تفاصيلها وملامحها من الضوء وحده من دون سواه. فالولع بالأجواء الليلية قد فرضته أجواء الغموض وطبيعة التكوين والميل الشخصي المتأرجح بين المنطق الخيالي والرمزي في رؤية العالم والمفردات والعناصر، ونقول هنا الخيالي وليس السريالي، فصبري منصور ليس سريالياً كما قد يعن للبعض وصفه أحياناً حين يحيلون كل عمل فني غامض أو غير مفهوم إلى السريالية من دون معرفة واضحة لمفهوم المصطلح.

فالسريالية تعتمد على مجموعة من الخيالات الباطنة والجامحة، والتي هي أشبه بهلوسات العقل الباطن، وأعمال صبري منصور لم تكن من هذا النوع، هي أعمال تعتمد على المواءمة ما بين الواقع والخيال، وتستند إلى مفردات وعناصر راسخة في الثقافة المصرية والإنسانية في شكل عام. هو يميل إلى الرمز، لكنه في الوقت نفسه لا يستكين إليه ولا يترك له الفرصة للسيطرة الكاملة على العمل. نعم قربته أجواء الغموض والخيال من روح السريالية، غير أن مفرداته وعناصره الدالة جعلته أدني إلى عالم الرمز، وهو سلوك اختاره في سبيل بحثه عن قيمة جمالية تخصه وحده، قيمة نابعة من رؤيته كإنسان يعيش في كون فسيح لا نهائي مليء بالتساؤلات، ونابعة أيضاً من ثقافته التي شكلتها مشارب عدة تنطوي هي الأخرى على الكثير من نقاط الغموض والتشابكات.